حديث الجمعة

«زينة المتقين – 2» يوم الجمعة 20 شوال 1446 هـ

نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «زينة المتقين – 2» يوم الجمعة 20 شوال 1446 هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّد الخلق، وأشرف الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

ربِّ اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.

اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم.

عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإن التقوى زينةٌ للإنسان.

ولمّا كان الإنسان بحاجة إلى أن يعرف الخريطة التي يجب أن يختطَّها لنفسه حتى يكون من المتقين، ولمَّا كان العالم فيه غيبٌ وشهادةٌ، وفيه حاضرٌ ومستقبلٌ، فلا يمكننا أن نستغني عن توجيهات الله عز وجل ورسوله والأئمة (عليهم أفضل الصلاة والسلام) في هذا الصددِ.

ذكرنا ثلاث قواعد في الأسبوع الماضي، ونستعرض بقية القواعد كمدخلٍ لولوجنا في وقفاتٍ وتأملاتٍ في دعاء الإمام السجاد عليه السلام بعنوان: مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.

القاعدة الرابعة: أن الناس يدور أمرهم بين الخطأ والصواب

ففيهم مصيبٌ، وفيهم مخطئ. ونعني بالمصيب هو من يعرف هدفه ويصل إليه، يعرفه علماً، ويوفّق إلى تحقيق هذا الهدف والوصول إليه، والمخطئ خلاف ذلك.

النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في وصيته التي ألقاها على مسامع أبي ذر، يشير إلى نقطة ترتبط بهذه القاعدة. وهي قوله صلوات الله وسلامه عليه: إن المؤمن ليرى ذنبه كأنه تحت صخرة() يعني المذنب يرى نفسه تحت الصخرة.

يخاف أن تقع عليه، وإن الكافر يرى ذنبه كأنه ذباب مرَّ على أنفه().

الفرق بين هذين الشخصين، ولا يُراد بالمؤمن المؤمنُ بالدائرة الخاصة، وإنما المؤمن الذي يقابل الكافر المؤمن مراتب، كما أن الكافر مراتب.

المؤمن، كيف يتعامل مع الخطأ، والخطيئة، والمعصية، والذنب، والسيئة التي يقع فيها؟

يشعر بهذا التشبيه الذي بينه النبي صلى الله عليه وآله في هذه الكلمة. أن الخطر داهم، وأن صخرة كبيرة تكاد أن تقع عليه، فيشعر بقلق شديد، لذلك فإنه يسارع إلى الاستغفار والتوبة، ولا يشعر بذلك إلا المتخلق بالأخلاق الحسنة الذي يراعي مصلحة نفسه، ويراعي حق الله سبحانه وتعالى عليه.

وهنا تكمن أهمية مكارم الأخلاق، ومرضي الأفعال.

أما الكافر فإنه لا مبالٍ، لا يشعر بأن لله عز وجل حقاً عليه، بل ولا يشعر بأن لنفسه حقاً عليه. لذلك حينما يقدم على ارتكاب المعاصي هو لا يحترم نفسه، فمن هانت عليه نفسه تزيد عنده الشهوات، لكن أمير المؤمنين ماذا يقول؟

من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته().

ليس مستعداً أن يضحي بكرامته التي يعرفها ويدركها في نفسه ولنفسه، فيرتكب هذه المعصية وتلك المعصية! لأنها ستخزيه عاجلاً أو آجلاً، وهو لا يحب أن يُخزى عند الله سبحانه وتعالى، ولا عند الناس، بل حتى بينه وبين نفسه.

هذه قاعدة، فإذاً يجب أن نلتفت إليها.

القاعدة الخامسة: هي أن هناك فرقاً بين الناس الطموح العالي والطموح الداني.

هناك من يكون طموحه بسيطاً، يطمح إلى أن يحقق أشياء، لكن لا تتجاوز أرنبة أنفه كما يُقال.

أما المؤمن المتخلِّق بالأخلاق العالية، فإن طموحه عالٍ جداً، هو لا يرضى بالدنيا، بل يسعى إلى طلب الجنة.

لاحظوا ماذا يقول الله عز وجل في سورة البقرة، يتحدث عن الذين يحجّون البيت الحرام. ونحن نعرف أن الحج ليس سنة إسلامية مبتكرة، كان موجوداً قبل الإسلام، وتعرّض لكثير من التشويه، جاء الإسلام ليُصحّح فَهم الناس للحج وتطبيقهم له.

يقول عز وجل: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا[البقرة: 200].

الآن يتكلم عن تصانيف الناس. ما الذي ينشدونه في الحج؟ وفي غير الحج؟ لكن في خصوص كاذا كان يطلب بعضهم في هذه الرحلة المناسكيّة، العبادية، التي يُفترض أن يطلبوا فيها من الله ما لا يستطيع إلا الله إنجازه… ماذا كان يطلب بعضهم؟ يقول:

﴿فَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا وما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ﴾. أي لا يريد إلا الدنيا، لا يطلب الآخرة، ولا يهتم بها، ولا يوليها شيئاً من اهتمامه وعنايته.

﴿وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾

ثلاث مطالب يطلبها هذا المؤمن، قبل ما لا يطلبه الكافر الكافر يطلب الدنيا، وقلنا الكافر مراتب.

فالإنسان، بقدر ما يتخلق بهذا الخلق، يقترب من الكافرين، وبقدر ما يتخلق بخلق المؤمنين، يكون من المؤمنين.

المؤمن يطلب ثلاث طلبات:

يطلب من الدنيا ما يحصل فيها، ما يتجمل به فيها، ما يزينه فيها، لكنه لا يغفل عن الآخرة، فإن الآخرة هي دارُ القرار. يطلبها بأزيد مما يطلب الدنيا. وإلى جانب ذلك، يطلب أن يفدَ على الله عز وجل ناجياً من عذاب النار، حتى يكون من أهل الجنة.

هذه الثلاث طلبات، لا يغفل عنها إطلاقاً.

القاعدة السادسة: هناك صراعاً بين الحق والباطل

الحق يمثل جبهةً، ولهذه الجبهة أهلٌ ومقاتلون.

وللباطل جبهةٌ، ولها أهلٌ ومقاتلون.

المؤمن المتخلّق، كيف ينظر؟ أو كيف يصنّف نفسه؟

لا يمكن أن يصنّف نفسه من أهل الباطل، لا على مستوى القول، ولا على مستوى الفعل، بل ولا حتى على مستوى المشاعر والتفكير.

أما أولئك الذين لا يولون الأخلاق، ولا الإيمان، ولا التديّن الصادق لله عز وجل،
فلا يعنيهم شيءٌ من هذا.

لاحظوا ماذا يقول الله عز وجل في سورة البقرة أيضاً، يتكلم عن فئاتٍ من الناس لم تتدين بدين الله الحق قد يكون أصلها دينَ حقٍّ، لكنه حُرِّف، وتُلاعِب به، فزُيِّف، فـ تزيف وعيُهم، وتزيف واقعُهم.

﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَٰرَىٰ تَهْتَدُواْ﴾ يعني اليهود يقولون: كونوا يهوداً تهتدوا، والنصارى: يكونون كونوا نصارى تهتدوا.

الله سبحانه وتعالى يخاطب النبي، فيقول: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ إبراهيم، الذي ينتسب إليه اليهود، وإبراهيم، الذي ينتسب إليه النصارى، لم يكن يهودياً باليهودية المحرفة، ولم يكن نصرانياً بالنصرانية المحرفة، بل كان على دين الله الحنيفي، دين الله المستقيم الذي جاء الإسلام ليثبِّته ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ قطعًا لم يكن من المشركين.

لأن من المآسي أن المشركين أيضاً وخاصة مشركي قريش كانوا ينسبون أنفسهم إلى إبراهيم، وهم يعبدون الأصنام! مع أن إبراهيم، من أول ما فعله حتى اضُطر إلى أن يخرج من بلده هو أنه حطَّم الأصنام.

كيف ينسب له اليهودية المحرفة؟ والنصرانية المحرفة؟ ناهيك عن الشرك والكفر؟

يُكمل الله عز وجل، ما المطلوب من الإنسان حتى يتدين بدين الحق، فيكون من أهل الحق، ويخرج من دائرة الباطل؟

﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ..﴾ [البقرة: 136]. هؤلاء أنبياء لم يأتِ أحد منهم بما يخالف الآخر، نحن نؤمن بكل هؤلاء.  فمن أراد اليهودية الحقّة فهي في الإسلام، ومن أراد النصرانية الحقّة فهي في الإسلام، ومن أراد الحنيفية الإبراهيمية الحقّة فهي في الإسلام، {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].

﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ [البقرة: 137-138]. 

هذا هو دين الله عز وجل، الذي جاء به أول نبي إلى آخر نبي، لا فرق بين أحد منهم وآخر في تكريس هذا المعنى وتكريس هذه القاعدة.

القاعدة السابعة، والأخيرة كمدخل لما نريد أن نتحدث عنه -: أهمية الأخلاق وحسن الاعتقاد.

يجب أن يكون الدين الحق، والإنسان السوي، لا يمكن إلا أن يكون على خُلق حسن. وذكرنا فيما مضى أن الإنسان، كل الناس، عندهم أخلاق، لكن الفرق أن هناك أخلاقاً حسنة، وأخلاقاً سيئة.

لأن كل إنسان له سلوك، له تصرف، مع نفسه، مع الآخرين، مع من يحبهم، مع من لا يحبهم، هذا السلوك وهذا التصرف، إن كان حسناً فهو من الخُلقِ الحسنِ، وإن كان سيئاً فهو من ذوي الأخلاق السيئة.

لذلك فإن الإمام السجاد عليه السلام، ماذا كان يطلب؟

كان يطلب في هذا الدعاء الذي نسأل الله أن يوفقنا وإياكم إلى التجول في فقراته يسأل مكارم الأخلاق، ومرضي الأفعال. ليس لئيمَ الأخلاق وغيرَ المرضي من الأفعال، فإذاً الأخلاق، مكارمها مطلوبة.

في الرواية، ورد عن أبي جعفر الباقر عليه السلام عن جدّه عليه السلام، قال:

لما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مناسكه من حجة الوداع، ركب راحلته، وأنشأ يقول يعني: صار يقول لا يدخل الجنة إلا من كان مسلمًا.

فقام إليه أبو ذر الغفاري رحمه الله، فقال:

يا رسول الله، وما الإسلام؟

هذا الذي تدعون إليه؟ وتقول: إنه لا يدخل الجنة إلا من كان عليه؟

ما هو هذا الإسلام؟

فقال صلى الله عليه وآله: الإسلام عُريانٌ.

يشبّه النبي صلى الله عليه وآله الإسلام بالإنسان العاري.

الإسلام عريان، لباسه التقوى.

والله عز وجل، لماذا؟ يقول في فقرات الكتاب الكريم: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾.

الإسلام عريان، ولباسه التقوى، وزينته الحياء، وملاكه الورع، وجماله الدين، وثمره العمل الصالح، ولكل شيء أساس، وأساس الإسلام حبنا أهل البيت().

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يضع مجموعة من العناوين أراد أن ينتشل بها الناس، من ثقافة إلى ثقافة أخرى، ومن واقع إلى واقع آخر، ومن عالم من المفاهيم والسلوكيات إلى عالم جديد. من المفاهيم والسلوكيات، تصنَّف معه أو يُصنَّف معه ذلك العالم بالجاهلية، والعالم الآخر الجديد بالإسلام. والله عز وجل يقول: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾.

ماذا كان عليه الناس قبل هذا؟

ما جاء في قول الله عز وجل: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [سورة الكافرون].

كانوا في ضفّة أخرى! لا يعبدون الله الذي يجب أن يُعبَد، ولا يجوز للمؤمن أن يعبد ما يعبده أولئك. وحينما نُقر بأن الله عز وجل هو الإله الذي يجب أن يُعبد، يعني: يجب أن نعرف ما له؟ وماذا يطلب منا؟ ماذا علينا أن نلتزم؟ وبماذا وعدنا؟ عماذا حذّرنا؟ وعماذا نهانا؟

إلى مجموعة وسلسلة تفصيلية، لا يكاد يخلو فعل من أفعال الإنسان إلا وله حكم: يجوز لك أن تفعله، أو لا يجوز لك أن تفعله.

هذه الخريطة، هي التي تكفل للإنسان أن يكون من المتقين وله زينة، وهو ما رسمه الإمام السجاد عليه السلام في هذا الدعاء.

ونسأل الله عز وجل أن نكون وإياكم، ممن يتخلّقون بما سأله الإمام عليه السلام في هذا الدعاء.
وجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

اللهم صل على محمد وآل محمد، اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن، صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعة وفي كل ساعة، ولياً وحافظاً، وقائداً وناصراً، ودليلاً وعيناً، حتى تسكنه أرضك طوعاً، وتمتعه فيها طويلاً.

اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واخذل الكفار والمنافقين، اللهم من أرادنا بسوء فأرده، ومن كادنا فكده.

اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، وأغن فقرائنا، وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا، ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا يا كريم.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، محمد وآل محمد، اللهم صل على محمد وآل محمد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *