حديث الجمعة

«زينة المتقين (7) تكاملُ الإيمانِ (3)» يوم الجمعة 25 ذي القعدة 1446 هـ

نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «زينة المتقين (7) تكاملُ الإيمانِ (3)» يوم الجمعة 25 ذي القعدة 1446 هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّد الخلق، وأشرف الأنبياء

والمرسلين، محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

ربِّ اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي. اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم.

عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله.

***

لا يزال حديثنا في دعاء الإمام السجاد عليه السلام، راجين أن نتعرف على زينة المتقين، وفي الفقرة الأولى، قال عليه السلام: اللهم صل على محمد وآل محمد وبلِّغ بإيماني أكملَ الإيمان(). قلنا إن هناك محطات، استعرضنا بعضها، وبلغ بنا الحديث إلى المحطة الثالثة، وهي: ثمرات تكامل الإيمان.

الحكيم من الناس لا يُقدِم على عمل، ولا يُحجِم عن عملٍ، إلا إذا كان وراء إقدامه أو إحجامه غايةٌ تناسب حكمته. والحكمة مفهوم نسبي: ما يوجد عند فلان من الناس من الحكمة قد يبلغ الدرجة الأولى، ويفوقه آخرُ، فيرقى إلى الدرجة الثانية، ويفوقه ثالث ويرقى إلى الدرجة الثالثة، وهكذا …

فإن الحكمة لها أول لكن ليس لها آخر، وذلك أن اللهَ عز وجل وصف نفسه بالحكيم.

فإذا كان الله عز وجل يتصف بالحكمة، معنى ذلك أن الحكمة لها أول، وليس لها آخر، لأن الله عز وجل لا حدّ لصفاته.

لكن الفرق بين حكمة الخالق والحكمة في المخلوقين هو أن الخالقَ عز وجل إذا فعل شيئًا، فهو لا يرجو نفعاً لنفسه، لأنه الغني بالمطلق. أما الناس، فلا يُعاب عليهم أن يفعلوا شيئاً ويرجون من وراء  ذلك الشيء أن يعود إليهم نفعٌ. فإن الله عز وجل يقول: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15].

الإيمان، كما شرحنا معناه ومدلوله، له ثمرات يمكن أن تُوصف بأنها مظاهره، ويمكن أن توصف بأنها ثمراته.

ما الثمرات التي يرجوها الإنسان حتى أن الإمام عليه السلام يرجو أن يبلغه اللهُ عز وجل أكملَ الإيمان، وليس مطلق الإيمان؟ ولا الدرجة الدنيا من الإيمان؟

لها حكم كثيرة، وثمرات كثيرة.

نقف عند رواية رُويت عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه أفضل الصلاة والسلام:

أنه سُئل أمير المؤمنين عليه السلام على الإيمان، فأجاب الإمام عليه السلام عن الإيمان ودعائمه، ولم يستوفِ لأن المقام لا يسمح بالاستيفاء والاستيعاب، وإنما ذكَر مجموعة عناوين تعتبر مهمة وأساسية: أربعة عناوين أساسية، وتحت كل عنوان وثمرة من هذه الثمرات الطيبة أربعة عناوين.

ولك أن تُدخِل تحت كل واحدة من هذه العناوين الفرعية، فروعاً كثيرة جداً.

سُئل أمير المؤمنين عليه السلام عن الإيمان، فقال: إن الله عز وجل جعل الإيمان على أربع دعائم: على الصبر، واليقين، والعدل، والجهاد().

فمن دون هذه العناوين، لا تقوم للإيمان قائمة.

ونفس هذه العناوين الصبر والعدل واليقين والجهاد أيضاً هي مفاهيم نسبية، فما يتوفر عند فلان من الناس من الصبر لا يساوي ما يكون موجوداً عند صابرٍ آخر، وقِس على هذا العدلَ واليقينَ والجهادَ.

ثم يأخذ الإمام عليه السلام في تشعيب هذه الدعائم، أي تفصيلها وتفكيكها، فيقول عليه السلام:

فالصبر  من ذلك الذي هو أحد دعائم الإيمان على أربع شعب: على الشوق، والإشفاق، والزهد، والترقّب().

حتى يعرف الإنسان أنه قد تحلّى بالصبر، وحتى يعرف أنه قد تحلى بالصبر، يجب أن يلمس في نفسه هذه الصفات الأربع، والفضائل الأربع، وهي: الشوق، والإشفاق، والزهد، والترقّب. فلنعتبر هذه ثمرات للإيمان، وهي مظاهر للإيمان. ولا يكتفي الإمام عليه السلام بذلك، بل يُبرز الثمرات التي ينبغي لكل عاقل وحكيم ومؤمن أن يطلبها، فيقول عليه السلام: فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات().

اللهُ عز وجل خلق في الإنسان نوازع، تدعوه إلى فعلِ أشياء: خلقه قابلًا لأن يجوع، فيطلب الأكل حتى يسد جوعه. ويعطش، فيطلب الماء حتى يرفع عطشه. يميل إلى الجنس الآخر، فيرغب أن يلبي حاجته. وعلى هذا قِس كل شهوة موجودة.

والشهوة ليست معيبة في الإسلام، ولا يرفضها الإسلام، وإنما يُقننها ويضع لها حدوداً، فيجب على الإنسان أن يطلب، ويحقق شهواته ضمن هذه الأطر والمحددات والأسس والموانع التي حددها الله عز وجل. فمن خرج عن ذلك عُدّ من المعتدين. وإذا دخل في زمرة المعتدين، فعليه أن يتحمل العواقب والنتائج.

فقال عليه السلام: فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات().

لماذا يفعل ذلك؟

الجنة، ما هي؟

الجنة هي أعلى مرتبة من مراتب السعادة. ولا تُطلب في الدنيا، فالدنيا هي محطة، لو أن الإنسان أحسن العملَ فيها، رجا أن يكون من أهل الجنة.

كيف يتوصل الإنسان إلى أن يكون من أهل الجنة؟

أن لا يسمح لشهواته أن تعيق حركته؛ لأنها إن فعلت ذلك وأعاقت حركته بقي في محله، وإذا بقي في محله حيل بينه وبين أن يكون من أهل الجنة!

فالمشتاق جدّاً للجنة، الصادقُ في اشتياقه وطلبه لها، يعفُّ عن كثيرٍ من الشهوات، بل عن جميعها، ولا يستجيب لها إلا في حدود ما أذن الله عز وجل. فيأكل ما أحلّ الله أكله، وفي حدود ما أذن الله عز وجل أن يأكله، وفي حدود ما يحفظ له بدنه، دون أن يُلحق به الضرر. فلا يأكل كل شيء، ولا في كل وقت، ولا يتمادى في طلب الأكل والجوع، وغير ذلك من الشهوات.

فإذن، الصادقون في طلب الجنة لهم علامات، من هذه العلامات: السُّلوُّ عن الشهوات، أي الكفُّ والترفع عن الاستجابة لها.

يقول أمير المؤمنين عليه السلام في كلمة أخرى له -: من كرُمت عليه نفسه، هانت عليه شهواته(). لأن الإنسان لو استجاب لكل شهواته لا يعني هذا أنه من أهل الكرامة، بل يعني أنه عند نفسه من أهل الهوان.

فعليه السلام يقول: فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات().

المحرمات هي ما لم يأذن الله عز وجل للناس أن يقدموا عليه ويفعلوه، كالزنا، وشرب الخمر، وكل ما حرم الله عز وجل على الناس أن يرتكبوه. الإنسان إذا كان صادقًا في إشفاقه من النار، وكان جادّاً في حذره منها، فلا يجوز له عقلًا وحكمةً أن يُقدِم على المحرمات. لأن كل حرام يقع فيه الإنسان ويرتكبه يجعل بينه وبين الجنة سدّا، ويفتح الباب واسعاً للنار أن يقبل عليها، وتقبل عليه.

ثم يقول عليه السلام: ومَن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات().

الزهد في الدنيا يعني أن لا نضعها في الموضع الذي يتجاوز ما ينبغي أن توضع فيه، لا نضخم من الدنيا فنجعلها ندِّا للآخرة. الدنيا ليست ندِّا ولا ضدِّا ولا ينبغني أن تقاس بالجنة. الجنة في مرتبة، والدنيا في مرتبة، الدنيا مزرعة الآخرة، والمزرعة لا تطلب إلا من أجل ما يجنيه صاحبها من الثمرات، أو يأنس فيها، المزرعة في نفسها، ليست مطلوبة. المزرعة تطلب لما يُرجى من ورائها، الدنيا هكذا. الدنيا يعيش الإنسان فيها عدداً من السنين، طالت أو قصرت، كثرت أو قلت، ليس من أجلها، لأنه في نهاية الأمر سيموت: ﴿.. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ..﴾ [آل عمران: 185] . ما بعد الموت، ما الذي سيقدم عليه الإنسان؟ إما الجنة إن كان من المتقين والمؤمنين، أو نعوذ بالله من النار، إن فعل أفعالهم.

فقال: ومَن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات().

لماذا تهول عليه المصيبات؟

لأن الله عز وجل قرن الدنيا بالمصائب ﴿.. وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ..﴾ [البقرة: 155].هذا وعد قاطع من الله عز وجل في الدنيا، لا يمكن للإنسان أن يسلم من المصائب. المرض، الفقر، فقد العزيز، فقد المال، الأذى من كل ناحية، لذلك ينبغي للإنسان أن يلهج دائماً بحمد الله عز وجل على كل ما يصيبه، ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 156] مهما بلغت هذه المصيبة من الشدة فهي مؤقتة بيوم أو يومين، أسبوع، أو أسبوعين، سنة، أو سنتين، أو حتى لو استغرقت العمر كله. لكن عمرك في الدنيا لا يساويه، ولا يعدله ما قدره الله عز وجل لك في الآخرة من أبد الآبدين.

ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن راقب الموت سارع إلى الخيرات(). لا يمكن للمؤمن أن يغفل عن أن الموت آتيه لا محالة. فإن الله عز وجل يخاطب أشرف البشر وأكرم المخلوقات، وسيدهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويقول: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] أو ﴿.. أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ [الأنبياء: 34] لأن المشركين والكافرين لما تأذوا من دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله، وكانت حجته أبلغ، خططوا أن يقولوا أنه سيموت، وستموت دعوته معه. الله عز وجل يقول إن مات النبي وسيموت أنتم لاحقون به، إن لم يكتب له الخلد، فأنتم أولى أن لا يكتب لكم الخلد، فهذا رهان خاسر.

فالمؤمن العارف بأن الموت آتيه لا يمكن أن يفرط فيما ينبغي أن يدخره لنفسه، ويقدمه بين يديه. وما تقدم من خير، فمحسوب لكم أيها الناس، هذه هي الدعامة الأولى.

وأما الدعامة الثانية: وهي اليقين، وسنأتي في الحديث عنها. لذلك أقرأ ما قرأه الإمام عليه السلام دون الوقوف عندها كثيرا واليقين على أربع شعب()، اليقين هي الحالة النفسية، حالة الاطمئنان المبنية على العلم والمعرفة والفقه، ماذا يترتب عليها؟ حتى يكون الإنسان من أهل الإيمان؟

وَالْيَقِينُ عَلى أَرْبَعِ شُعَبٍ: تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ، وَتَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ ، وَمَعْرِفَةِ الْعِبْرَةِ، وَسُنَّةِ الْأَوَّلِينَ ؛ فَمَنْ أَبْصَرَ الْفِطْنَةَ ، عَرَفَ الْحِكْمَةَ؛ وَمَنْ تَأَوَّلَ الْحِكْمَةَ ، عَرَفَ الْعِبْرَةَ؛ وَمَنْ عَرَفَ الْعِبْرَةَ ، عَرَفَ السُّنَّةَ ؛ وَمَنْ عَرَفَ السُّنَّةَ ، فَكَأَنَّمَا كَانَ مَعَ الْأَوَّلِينَ ، وَاهْتَدى إِلَى الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ، وَنَظَرَ إِلى مَنْ نَجَا بِمَا نَجَا ، وَمَنْ هَلَكَ بِمَا هَلَكَ ، وَإِنَّمَا أَهْلَكَ اللَّهُ مَنْ أَهْلَكَ بِمَعْصِيَتِهِ ، وَأَنْجى مَنْ أَنْجى بِطَاعَتِهِ().

لأننا خصصنا في كما و تبعا لما جاء في دعاء الإمام عليه السلام. عن اليقين، سنؤجل الحديث في هذه الفقرة إليها إن شاء الله.

الدعامة الثالثة: العدل

ننتقل إلى الدعامة الثالثة، وهي العدل. والعدل يعني أن يعطي الإنسان كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، سواء كان خارج ذاته بل حتى في داخل ذاته. أيضاً، الإنسان، لو أردنا أن نُجزّئه، لوجدنا أنه مجموعة أفراد داخله؛ فعينه لها حق، وأذنه لها حق، ورجله لها حق، وبطنه له حق. فلا ينبغي له أن يسلبها حقها، الذي يجب عليك أن توفيه له، ولا أن تعطيه أكثر من حقه، لأنه في كلتا الحالتين يكون الإنسان مُفرطاً ومفرطاً، وبهذا يضر نفسه.

فيقول عليه السلام: والعدل على أربع شعب(). هل كل الناس يتوقع ويرجى منهم أن يكونوا عدولاً في أقوالهم، وأفعالهم، وتصرفاتهم؟

الجواب: كلا، ثمة شروط من لم يتوفر عليها من الناس، لا يمكن أن يوفق إلى العدل فلا بد أن يتوفر على هذه الشروط.

قال: والعدل على أربع شعب غامض الفهم، وغمر العلم، وزهرة الحكم، وروضة الحلم(). الإمام عليه السلام يشرحها، قال: فمن فهم فسر جميع العلم() المطلوب من الناس أن يتعلموا ويتفقهوا، ليس في المراتب الدنيا، وإنما في المراتب العليا، حتى يكونوا من أهل الفقه، وقد ورد في الأحاديث الشريفة أننا لا نعد الفقيه فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا() يعني السطور، وما وراء السطور.

وليس هذا عنوانا خاصا بمن ينتسب إلى الحوزة، وفي مرتبة ثانية إلى الجامعة، بل مطلوب حتى من الفلاح في حقله وفي بستانه، ومن راعي الأغنام في الصحراء، ومن المرأة في بيتها، ومن الرجل في عمله، ومن الصغير والكبير أن يكونوا من أهل الفقه، لأن الله عز وجل يقول: ﴿.. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ..﴾ [الزمر: 9] العلم كلما اكتسبه الإنسان، ارتقى عند الله عز وجل، وتأهل لثوابٍ لا يناله غيره، نوم الفقيه خير من عبادة الجاهل، لأن الفقيه ينام على يقين، والجاهل يتعبد على شك، وإنما خرج من خرج على أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام، وعدّ من البغاة والخوارج، بسبب أنهم كانوا جهلة فلم يعرفوا الحق من الباطل، والمحق من المبطل.

فقال: فمن فهم فسر جميعَ العلمِ(). طبعاً تفسير جميع العلم لا يعني أن الإنسان يعلم بكل شيء، ويفقه كل شيء، ويعلم كل شيء، ويبلغ حقيقة العلم في كل شيء، هذا مقام لا يناله الناس! لأن الله عز وجل يقول في نص صريح في القرآن الكريم -: ﴿.. وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85]. فلو أن الإنسان ادّعى أنه عرف كل شيء، وفهم كل شيء، هذا أول مراتب الجهل فيه، وفي حق من يدَّعَى له.

الإمام عليه السلام يعطي لنا أشبه ما يكون بالأفق، أن الإنسان إذا فَهِم سَهُل عليه أن يفهم في جميع الجوانب، يسعى فيطلب العلم هنا، فيفقه ويعرف. ولذلك فإنه يقول عليه السلام، في كلمة أخرى له: من ترك قول لا أدري أصيبت مقاتله(). لا ينبغي للإنسان أن يتكلم في كل شيء، أو يزعم أنه يعرف في كل شيء، أو يقحم نفسه، في الحديث في كل شيء. لذلك من سمات المؤمن الصمت وإذا وجدتم الرجل صموتاً، فاقتربوا منه، فقد أوتي الحكمة، لأن الإنسان يعرف قدره، ورحم الله من عرف قدره.

فمن فَهِم فسر جميع العلم، ومن علم عرف شرائع الحكم(). يعرف حلال الله وحرامه، يعرف حدوده، ويعرف حدود الآخرين، يعرف حقه، فلا يطلب أزيد منه، ويعرف حقوق الآخرين، فلا يتعدى عليهم. والشرائع هي السواحل التي تكون على النهر، وعلى البحر، فلا يخوض ما لا ينبغي الخوض فيه، ولا يمتنع عما ينبغي الخوض فيه، ويجب عليه أن يخوض فيه.

ثم يقول عليه السلام: ومن حلم() الحلم هنا المقصود به العقل. النضج العقلي الذي يتوفر عليه الإنسان، والحلم بمعنى ردة الفعل اللينة تجاه جهل الجاهلين، هذا تعبير عن حلم الحليم. ومن حلم لم يفرط في أمره()، ويقول عليه السلام في كلمة أخرى له -: لا ترى الجاهل إلا مفرطا أو مفرطا()، الإنسان إذا جاه إذا كان جاهلاً. سواء كان جاهلاً، بمعنى أنه لا يعلم، أو جاهل، بمعنى أنه ضد العاقل. لا يمكن، لا يحسن أمره، يزيد هنا بأكثر مما ينبغي، ويقلل هنا بأقل مما ينبغي، وعاش في الناس حميدا.

وأما الدعامة الرابعة فهي الجهاد

الجهاد، ماذا يعني؟

ليس من الصواب أن يُتصور أن الجهاد هو حمل السيف فقط، فكثير من الأنبياء عليهم السلام لم يُكلفهم الله عز وجل بحمل السيف، وآخرون كُلفوا بذلك، لأن الجهاد عنوان واسع.

ويدخل فيه نوعان أو مصداقان:

الأول: مقاتلة المعتدي، وهذا نسميه بالجهاد الأصغر.

الثاني: مقاتلة العدو الداخلي أعدى عدوك نفسُك التي بين جنبيك() والشيطان ينبغي أن نجاهده.

تلك المعركة الأولى قد يتطلب الإنسان أن يخوضها مرة أو مرتين أو لا يوفق إلى ذلك في طول عمره. لكن لا يمكن للإنسان أن لا يجاهده في كل يوم، بل في كل ساعة، بل في كل خطوة، في كل قول، في كل فعل، من أن يجاهد نفسه الأمّارة بالسوء، والشيطان الذي يكمن لنا، عن أيماننا و شمائلنا، ومن بين أيدينا، ومن خلفنا، ومن فوقنا، ومن تحتنا، الشيطان كامل لنا لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ [الإسراء: 62]، هو لا يريد فقط أن يمسك بزمامنا، بل أن يركب علينا، فيجعلنا كالدواب له، كما يجعل الحنك في الدابة. الشيطان لا يكتفي بخطأ واحد، يوقع الإنسان فيه، وإنما يجر الخطأ. يعني إذا ارتكب الخطأ أوقعه في خطأ آخر.

فيقول عليه السلام: الجهاد على أربع شعب : على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين().

الأساس الأكيد، والأصل الأصيل فيما يتعلق بالجهاد هو رفض المؤمن لكل خطأ، لكل خطيئة، لكل منكر، لكل ما لا يرضاه الله عز وجل، كيف يتعامل مع هذا؟

تارة بالأمر بالمعروف. يجد خطأ من الناس، أن لا يقوموا بمعروف يجب عليهم أن يقوموا به، ينبههم، يوجههم، يعظهم، يرشدهم، وإذا وجدهم قد وقعوا في المنكر في حدود ما، يعني يتيسر له أن يقوم به، كما فعل في الأول، يفعل في الثاني، ينهاههم. فإن الله عز وجل يقول: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا [التحريم: 6] الدائرة الأقرب، كلكم راع وكلكم مسؤولٌ عن رعيته().

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يختلف مسلمان في أنهما واجبان، وإن كان هناك تفاصيل كثيرة. كيف يمارس الإنسان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

هناك من يمارسه بجهل فيشوه الدين وأهله، وهناك من يمارسهما بحكمة وعلم وفقه، فهذا ما فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

والصدق في المواطن، وشنآن الفاسقين() ، ماذا يعني الصدق في المواطن؟

يعني أن يكون الإنسان ثابتا على إيمانه.

وشنآن الفاسقين نحن لا نرفض المنكر والفسق فقط، وإنما نرفض فاعله بناء على ما وقع فيه من المنكر، والفسق.

فيقول عليه السلام: فمن أمر بالمعروف شدَّ ظهرَ المؤمن()، كيف يعين المؤمن؟

لأن والله عز وجل يقول: ﴿.. وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ..﴾ [المائدة: 2] إذا وجدت صلاحاً مظهراً من مظاهر الصلاح والإيمان والمعروف، ينبغي لك أن تآزر وتشد ظهر هذا الذي يعمل العمل الصالح.

ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافقين() النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لمّا تخلّف بعض أصحابه عن الجهاد في سبيل الله، والمشاركة معه في معركة تبوك، أمر بمقاطعتهم، لم يفعل معهم أكثر من نهى الناس عن أن يبايعوهم، أو يتحدثوا معهم، أو يشاركوهم. أنت قد يتيسر لك أن تنهى عن المنكر، وتبدي رفضك بأن لا تصاحب هذا الرفيق الذي يعد من رفقاء السوء، ولا تتعامل معه، فتُضيّق الدائرة عليه. ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافقين وأمن كيده، ومن صدق في المواطن قضى الذي عليه، ومن شنأ الفاسقين وغضب لله عز وجل غضب الله له فذلك الإيمان ودعائمه وشعبه().

فإذن، حينما يطلب الإيمان (عليه السلام) أن يبلغه الله عز وجل أكمله، هذه ثمراته، يصل الإنسان بها إلى مقام السعادة، فيكون من السعداء، والمحمودين في الدنيا، والأهم من ذلك في الآخرة، إذا أقبل على الله عز وجل حتى يكون منطقه ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ [الأعراف: 43].

***

جعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

اللهُمَّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمد.

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن، صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعة، وفي كل ساعة، وليًا، وحافظًا، وقائدًا، وناصرًا، ودليلًا، وعينًا، حتى تسكنه أرضك طوعًا، وتمتعه فيها طويلًا.

اللهُمَّ انصُر الإِسلامَ والمُسلِمين، واخذُلِ الكُفَّارَ والمُنافقين. اللهُمَّ اشفِ مَرضانا، وارحَم موتانا، وأَغنِ فُقراءَنا، وأَصلِح ما فَسَدَ من أَمرِ دِيننا ودُنيانا، ولا تُخرِجنا من الدُنيا حتى تَرضَى عنَّا يا كَريم.

وصلَّى اللهُ على سيِّدنا ونَبيِّنا مُحمّدٍ وعلى آلِه الطيّبين الطاهرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *