نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «دور التاريخ في صناعة الإنسان» يوم الجمعة 16 رمضان 1444 هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.
بسم اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدِ الخلقِ وأشرف الأنبياءِ والمرسلين محمدٍ بنِ عبدِ اللهِ وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.
اللهم اجعل أعمالَنا خالصةً لوجهِك الكريمِ.
***
عبادَ اللهِ! أوصيكم – ونفسي – بتقوى اللهِ؛ فإن ما يجنيه المتقي من تقواه لا يقدَّر بثمنٍ، فقد قال اللهُ تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.
***
في سياقِ حديثِنا عن صناعةِ الإنسانِ نقف اليومَ – أيها الأعزةُ – بين مناسبتين تاريخيتين كريمتين، هما ذكرى ميلادِ الإمامِ الحسنِ المجتبى (عليه السلام)، التي صادفت يومَ أمسِ الخامسَ عشرَ من شهرِ رمضان، وذكرى معركةِ بدرٍ، التي تصادف غداً السابعَ عشرَ من هذا الشهرِ.
لهذا، فإن من المناسبِ أن نقفَ على بعضِ ما يتعلقُ بهما؛ استدعاءً لما يكتنفُهما من دلالاتٍ تُعِين المستذكِرَ على صناعةِ نفسِهِ كما يجب أو كما ينبغي.
أما المناسبةُ الأولى، فهي مناسبةٌ جليلةٌ، امتنَّ اللهُ تعالى فيها على رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وابنتِهِ سيدةِ نساءِ العالمين وبعلِها أميرِ المؤمنين (عليهما السلام)، وعلى الأمةِ الإسلاميةِ، برابعِ أصحابِ الكساءِ، وهذا يعني أننا لسنا أمام وليدٍ عاديٍّ من الناسِ، بل أمام وليدٍ له من السماتِ ما يجعله محطَّ أفئدةِ المسلمين.
ومن تلك السماتِ طهارتُهُ.
وهذه السمةُ تستفاد من أن اللهَ تعالى أنزل فيه وفي أهلِ بيتِهِ (عليهم السلام) قولَهُ عزَّ وجلَّ ﴿.. إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾، وليس هذا محلَّ خلافٍ بين قدماءِ المفسرين، غيرَ واحدٍ لا يُعتدُّ بخلافِهِ، فقد كان يرى رأيَ الخوارجِ، كما نقله الرجاليُّ الشهيرُ ابنُ عديٍّ الجرجانيُّ في كتابِهِ (الكامل في ضعفاءِ الرجالِ)، وقد بلغ من ضعفِهِ أن مالكاً بنَ أنسٍ – إمامَ المالكيةِ – لم يروِ عنه سوى حديثٍ واحدٍ لهذا السببِ.
وإطلاقُ مفردتي الطهارةِ والرجسِ في الآيةِ الكريمةِ يفيد أن شيئاً من الطهارةِ لن يُحرمَ منها هذا الوليدُ، وأن شيئاً من الرجسِ لن يصيبَهُ.
ومحصلةُ هذين الإطلاقين هو تعلقُ إرادةِ اللهِ تعالى بطهارةِ هذا الوليدِ طهارةً خاصةً تدل على ما ذهب إليه الإماميةُ من عصمتِهِ (عليه السلام).
وقد فُصِّل وجهُ دلالتِها في البحوثِ المطولةِ.
وهذه السمةُ جعلت من هذا الوليدِ أهلاً لسمةٍ ثانيةٍ أعلنها رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، واتفق المسلمون – مع اختلافِ مذاهبِهم – على روايتِها، وهي قولُهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) “الحسنُ والحسينُ سيدا شبابِ أهلِ الجنةِ”، أخرج ذلك أحمدُ في المسندِ والفضائلِ، والترمذيُّ في سننِهِ، والنسائيُّ في سننِهِ، وابنُ ماجةَ في سننِهِ، والطبرانيُّ في المعجم، وغيرُهُم.
وإذا شهدَ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) للإمامِ الحسنِ ولأخيه الحسينِ (عليهما السلام) بالسيادةِ لشبابِ أهلِ الجنةِ، فإن هذا يعني وصفَين لازمَين:
الوصفُ الأولُ: أنه بلغ أعلى مراتبِ التقوى والسدادِ في الفعلِ – وهما عندنا يعنيان العصمةَ -، وأنه بلغ أعلى مراتبِ الكرامةِ عند اللهِ، ﴿.. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾. وهذا يعني أن النائلَ لهذا المقامِ قد اتصف بذلك في عالمِ الدنيا قبل عالمِ الآخرةِ، فالجنةُ لا تُنال إلا بالعملِ الصالحِ في الدنيا.
وعليه، لا يصحُّ أن يُساوى بالحسنِ والحسينِ (عليهما السلام) غيرُهما؛ ممن لم يُشهد له بمثلِ هذه الشهادةِ.
قال أميرُ المؤمنين (عليه السلام) “لا يُقاس بآلِ محمدٍ (عليهم السلام) من هذه الأمةِ أحدٌ، ولا يُسوَّى بهم مَن جرت نعمتُهم عليه أبداً.
هم أساسُ الدينِ، وعمادُ اليقينِ، إليهم يفيءُ الغالي، وبهم يَلحق التالي، ولهم خصائصُ حقِّ الولايةِ، وفيهم الوصيةُ والوراثةُ”.
وأما الوصفُ الثاني، فهو: أن الإمامَ الحسنَ (عليه السلام) قد بلغ من العلمِ مستوى لا يدانيه فيه غيرُهُ، فلا سيادةَ في الجنةِ بدون عملٍ صالحٍ، ولا عملَ صالحاً بدونِ علمٍ، والذي يَعلم خيرٌ ممن لا يَعلم. قال تعالى ﴿.. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ..﴾.
لذلك، فإن مما يجدر قولُهُ هو أن رأيَ الإمامِ الحسنِ ورأيَ أخيه الحسينِ (عليهما السلام)، وقولَهما، مقدمٌ على رأيِ مخالفِيهما وقولِهم أيّا كانوا، ولولا ذلك لكانت السيادةُ في الجنةِ لغيرِهما، وهذا ينافي شهادةَ الرسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يليق بمسلمٍ أن يقولَ ذلك!
ومن هنا، روي عن رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قولُهُ “الحسنُ والحسين إمامان قاما أو قعدا”.
ولإمامِنا الحسنِ ولأخيه الإمامِ الحسينِ (عليهما السلام) سمةٌ ثالثةٌ، وهي أنهما كانا من رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) بمنزلةِ إسماعيلَ وإسحاقَ (عليهما السلام) من إبراهيمَ (عليه السلام)، فقد أخرج الحاكمُ النيشابوريُّ في مستدركِهِ عن ابنِ عباسٍ، قال “كان النبيُّ صلى الله عليه [وآله] وسلم يعوِّذ الحسنَ والحسينَ، يقول: أعيذكما بكلماتِ اللهِ التامةِ من كلِّ شيطانٍ وهامةٍ، ومن كلٍّ عينٍ لامَّةٍ. ثم يقول: هكذا كان يعوِّذُ إبراهيمُ ابنيه إسماعيلَ وإسحاقَ”.
فقد كان الحسنان من رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) كما كان النبيانُ إسماعيلُ وإسحاقُ من النبيِّ إبراهيمَ (عليهم السلام)، وكما كان أبوهما عليٍّ – وهو خيرٌ منهما– من رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) بمنزلةِ هارونَ من موسى (عليهما السلام) إلا أنه ليس بنبيٍّ.
فبنوةُ الحسنِ والحسينِ لرسولِ اللهِ ليس كبنوةِ أيٍّ منا لأبيه، بل هي فوق ذلك بكثيرٍ؛ لأنه امتدادٌ للمشروعِ الإلهيِّ، وهذا ما يفسر ما روي عن رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال لابنتِهِ فاطمةَ (عليها السلام) “نبينا خيرُ الأنبياءِ، وهو أبوك، وشهيدُنا خيرُ الشهداءِ، وهو عمُّ أبيك حمزةُ، ومنا مَن له جناحان يطير بهما في الجنةِ حيث شاء، وهو ابنُ عمِّ أبيك جعفرٌ، ومنا سبطا هذه الأمةِ: الحسنُ والحسينُ، وهما ابناك، ومنا المهديُّ”.
وهذه السماتُ، وغيرُها كثيرٌ، مهَّدت لسمةٍ رابعةٍ أكَّد عليها رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي قولُهُ لعليٍّ وفاطمةَ والحسنِ والحسينِ (عليهم السلام) – في ما رواه الفريقان – “أنا حربٌ لِمن حاربتُم، وسلمٌ لِمن سالمتُم”، وقال أخرى “أنا حربٌ لِمن حاربكم، وسلمٌ لِمن سالمكم”.
وفي هذه السمةِ – بهاتين الصيغتين – إعلانٌ من رسولٍ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه منحازٌ مطلقاً إلى العترةِ الطاهرةِ في فعلِهم، وفي ردِّ فعلِههم، وأنه لا مجالَ – هنا – للمواقفِ الرماديةِ.
فالاحتفالُ والابتهاجُ – أيها المؤمنون والمؤمنات – بذكرى مولدِ الإمامِ الحسنِ (عليه السلام) ليس استذكاراً لتاريخٍ عاديٍّ، وإنما هو – كالاحتفالِ بذكرياتِ سائرِ العترةِ – احتفالٌ بقيمِ الحقِّ والجمالِ والكمالِ المجسَّدةِ فيه وفي أهلِ بيتِهِ (عليهم السلام)، وهي القيمُ التي ينشدُها طلابُ الحقِّ والحقيقةِ والفضلِ والفضيلةِ، وهو غايةُ الساعين في الصراطِ المستقيمِ.
وأما المناسبةُ الثانية، فهي ذكرى معركةِ بدرٍ الكبرى، حيث التقى الجمعانِ، فنصَر اللهُ عزَّ وجلَّ فيها فئةً قليلةَ العدةِ والعددِ، لكنها تسلحت بسلاحِ الإيمانِ، فثبَّت اللهُ تعالى أقدامَها، ونصر عبدَّهُ، وأعزَّ جندَهُ، وكسر كبرياءَ قريشٍ، وأذل خيلاءَها، حيث وسوس لها الشيطانُ بأن كثرتَها وتكاثرَها سينصرانِها، فأهلك اللهُ عزَّ وجلَّ خمسةً وسبعين من صناديدِها ورموزِ الجهلِ والجهالةِ فيها، وفي طليعتِهم هشامٌ بنُ الحكمِ، المعروفُ بأبي جهلٍ.
قال تعالى ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (١٢) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١٣) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ﴾.
ولا يفوتنا – أيها المؤمنون والمؤمنون – التنبهُ والتنبيهُ إلى أن شرفَ المشاركةِ في بدرٍ لم يكن ليمنعَ المشاركين فيها من أن يواجهوا – لاحقاً – امتحاناتٍ عسيرةً، أخفق فيها كثيرٌ منهم!
وقد حذرهم اللهُ تعالى من ذلك بقولِه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
قال الحسنُ البصريُّ أن الآيةَ “نزلت في عليٍّ، وعثمانَ، وطلحةَ، والزبيرِ”. وقد تبنى هذا القولَ، بسببِ ما رواه هو عن الزبيرِ بنِ العوامِّ، أنه قال “نزلت هذه الآيةُ {.. وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ..}، وما نظننا أهلَها، ونحن عُنِينا بها”.
وهذا ما اختاره السديُّ – أيضاً – حيث قال “هذه نزلت في أهلِ بدرٍ خاصةً، وأصابتهم يومَ الجملِ، فاقتتلوا”.
وهذا يعني أن فيهم ظالماً ومظلوماً.
فالتاريخُ وأحداثُهُ وشخوصُهُ، فيه توافهُ لا ينبغي الوقوفُ عندها، فضلاً عن الاشتغالِ بها، وفيه مفاصلُ لا يليقُ المرورُ السريعُ عليها، بل التأملُ فيها، ودراستُها؛ ليُعرفَ الحقُّ منها فيُتبعَ، وليميَّزَ المحقُّ فيُمَجَّدَ، وليُعرفَ الباطلُ فيُتَجنَّبَ، وليمتازَ المبطلُ فيُزدرَى.
فهذه وسيلةٌ من وسائلِ صنعِ الإنسانِ الإنسانِ.
جعلنا اللهُ وإياكم ممن يستمعون القولَ فيتبعون أحسنَهُ.
***
اللهم صلِّ على محمدٍ وآلِ محمدٍ.
اللهم كن لوليك الحجةِ بنِ الحسنِ، في هذه الساعةِ، وفي كلِّ ساعةٍ، وليّاً، وحافظاً، وقائداً، وناصراً، ودليلاً، وعيناً؛ حتى تسكنَهُ أرضَك طوعا، وتمتعَهُ فيها طويلاً.
اللهم انصر الإسلامَ والمسلمين، واخذل الكفارَ والمنافقين.
اللهم مَن أرادنا بسوءٍ فأرده، ومَن كادنا فكِده.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وأغنِ فقراءَنا، وأصلِح ما فسَد من أمرِ دينِنا ودنيانا، ولا تُخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا، يا كريمُ.
وصلى اللهُ على سيدِنا ونبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.