نصّ الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «فضيلة العزة … والمحافظة عليها (١)» يوم الجمعة ٢٢ ذي الحجة ١٤٤٣هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربّ العالمينَ وصلّى الله على محمّدٍ وعلى آله الطّيبين الطاهرين.
ربِّ اشرحْ لي صدري ويسّر لي أمري واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي،
عبادَ الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله
حينما يأمرنا الله عزّ وجلّ بالتقوى؛ فإنّه لم يوجّه لنا أمرًا مبهمًا لم يحدّد لنا تفاصيله فيما يتعلّق بجميع جوانب التقوى؛ بل دخل في تفاصيل التفاصيل؛ لأنّ من الخطأ تربويًّا أن تأمر أحدًا بشيءٍ ثمّ لا توفّر له هذا التفصيل حسباناً منك أنّه قادرٌ على أن يدخل في هذه التفاصيل. أمزجة الناس لمّا كانت متفاوتةً،و أذهانهم متباينة جدّاً فيما يفهمون من جهة ما يُفعل وما لا يُفعل، لا يمكن أن يُوجّه لهم أمرًّا عامًّا دون أن يدخل في التفاصيل.
فتقوى الله سبحانه وتعالى هي: ما دُوِّن أو ما بذلَ الفقهاءُ في ما دوّنوه للأمّةِ من مدوّناتٍ مطوّلةٍ ومختصرةٍ هم يغطّون جانبًا من جوانب التقوى؛ يعني أنت حينما تُؤمر بتقوى الله، يعني وضوءك شكلٌ من أشكال تقوى الله، غسلك شكلٌ من أشكال تقوى الله، وكذا صلاتك، وصومك، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، والحج والزكاة هذا شكلٌ من الأشكال التقوى. وكذلك فيما يتعلّق بمعاملاتك في البيع والشراء والصلح والنكاح والأحكام الشرعيّة والايقاعات والطلاق، كلّ هذه تدخل فيها تفاصيل التقوى؛ لأنّ الإنسان إذا باع أمرًا بطريقةٍ باطلةٍ يكون قد خالف التقوى،أو تزوّج بطريقةٍ غير مشروعةٍ يكون قد خالف التقوى، أو أخذ مالاً لم يرثه بطريقٍ مشروع لا يكون امتثل أمر الله عزّ وجلّ بالتقوى، وقسْ على هذا جميع تصرّفاتك في الحياة. حياة الإنسان أيضًا، تصرّفاته أنواعُ ليست تصرّفاً طبيعيّاً، يعني مثلاً هناك أوامر أو تصرّفات في البشر لا تدخل ضمن ما يأمر الله عزّ وجلّ به؛ لأنّ دائرة التشريع تقف عند حدود الأفعال الاختيارية. فالله سبحانه وتعالى لم يكلفّنا بأن يكون طولك كذا او قصرك كذا، فهذا ليس أمراً اختيارياً. لونك طولك شكل خلقتك، هذا خارج دائرة التكليف. نعم، بعد أن خلقك الله عزّ وجلّ بهذا الطول وهذا الشكل، هل يجوز للإنسان أن يتلاعب أو يغيّر في خلقته هنا أو هناك؟ أيضاً هناك تفاصيلُ تبين في الفقه الشرعي.
ما أريدُ أن أتحدّث عنه، أتحدّث عن فضيلةٍ من الفضائل الأخلاقيّة والعمليّة وكيف نحافظ عليها، وأعني بها؛ فضيلة العزّة ويقابلها رذيلة الذلّ. هل يجوز للإنسان أو يجب على الإنسان أن يكون عزيزًا؟ وهل يجوز له أن يكون ذليلاً؟ ما هي الطرق التي تؤدّي بالإنسان إلى أن يكون عزيزًا؟ وما هي الطرق التي يفقد بها عزّته فيصبح ذليلاً؟ وما هي دائرة المسموح والممنوع في هذا الباب؟ الحديث يأخذ شيئاً من التفصيل لذلك لن يكون في خطبةٍ واحدة.
أولاً: الإسلام نظام للدنيا والاخرة
الله سبحانه وتعالى حينما كلّفنا بهذه التكاليف في بعدها الفقهيّ والاعتقاديّ والأخلاقيّ هو لا يريد أن ينظّم الإنسان حياته في عالم الدنيا، هذه نظرةٌ ماديّة. في ما يتعّلق بفهمنا الدينيّ نحن نعتقد أنّ هذا العالم فيه ملكٌ وفيه ملكوتٌ. الملك هو: ما نراه ونبصره ونحسّه ونشعر به. وهناك ملكوتٌ، هناك بعدٌ آخر لهذا العالم، ومن الملك هناك غيبٌ وهناك شهادة. الذين يقصرون نظرتهم وحياتهم وتنظيم حياتهم على أساس أنّه لا يوجد إلا عالم الشهادة، هذا يرتبط بعالم الحيوانات، أمّا عالم الإنسان أبعد من هذا. الإنسان عنده مشاعرٌ، عنده تخطيطٌ للمستقبل، وهذا المستقبل لا يقف عند حدود ستين سنةً، أو سبعين سنة، أو مئة سنةً، تمتدّ به الحياة في عالم الدنيا؛ وإنّما هناك عالماً آخر وأقدس وأكثر خلوداً من هذا العالم. الدنيا مزرعة الآخرة فلا يمكن دينيّاً أن نفصل بين الدنيا والاخرة؛ حتّى لا نقع في المشكلة التي وقع فيها غيرُنا، فأصبحوا استهلاكيين كلّ ما يعنيهم في الحياة كيف يعيش حياته الدنيويّة بفارق أنّ هذا الإنسان يملك عقلاً، و يملك ذكاء،و يستطيع أن يطوّر حياته الماديّة على خلاف ما يعيشه الحيوانات،و يستطيع أن يبتكر، و يصنع، و ينتج. لا! الأمر بالنسبة لنا دينيّاً ليس في هذا الباب.
الأمر الثاني: هو أن الإسلام والمشرّع الإسلامي والله سبحانه وتعالى خالق هذا الإنسان
{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} خلقك وخلق فيك مشاعرًا وأفكارًا وسلوكيات. هذه الحقول الثلاثة أيضاً تدخل في عالم الفضيلة؛ يعني الإنسان كيف يكون عزيزًا، عزيز سلوكياً أو المسألة نفسية. لا! هي تعبيرٌ عمليُّ عن مشاعر، وهذه المشاعر تستقي من مجموعة من الأفكار فهمك للحياة قد يجعلك تعيش حالة عزٍّ والعزةّ مطلوبة من الله سبحانه وتعالى أو يكون لديك فهو المختلف فتصبح به ذليلاً. وهذا يرتبط أيضاً بطريقة التنظيم.
الأمر الثالث: هو أن التدين مسيرة تكامل
الله سبحانه وتعالى حينما أمرنا بالتقوى بكلّ تفاصيلها هو إنّما أمرنا بذلك من أجل أن تتكامل حياة هذا الإنسان، التكامل جانبٌ منه في بدنك. فمثلاً لا يجوز للإنسان أن يأكل ما يضرّه؛ فينتقل من حالة الصحّة إلى حالة المرض ،لأنّ الله يريد لك أن تتكامل إلّا في حدود ما تقتضيه الطبيعة البشريّة، خلقنا في دار قوّةٍ ثمّ من بعد القوّة ضعفاً. لا يستطيع الإنسان أن يتجنّب حالة الشيخوخة وكبر السّن وما يترتّب عليها من حالة الضعف العام. هذا لا يضرّ بتكامل الإنسان في بعده الإنساني، هذا في بعده الجسدي ممكن أن يحصل له هذا المعنى.
العزّة فيما يتعلّق بهذه المسائل الثلاثة، كيف نقرأها؟
أولاً: يجب أن نقرأ أن العزّة صفة لله عزّ وجلّ. فهي صفة كمال والموارد التي جاءت في القرآن الكريم يصف الله عزّ وجلّ فيها نفسه بالعزيز، ويسمي نفسه بالعزيز لعلّها تقترب من مئة مورد، مادة العزيز. مثلاً الله سبحانه وتعالى يقول في سورة الحشر:
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ* هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ* هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَآءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
مقطع قصير يتحدّث الله عزّ وجلّ فيه عن مجموعة من الأسماء الحسنى، لكن ذكر في هذا المقطع مرتين في موضعين يصف نفسه فيها بالعزّة وأنّه عزيزُ وقد ورد في الأثر المعروف: «تخلقوا بأخلاق الله» كما أنّ الله حكيم يجب على المؤمن أن يكون حكيماً، كذلك أن الله عز وجل عالمٌ وعليمٌ وذو علمٍ يجب على الإنسان أن يكون عالماً.
لأنه بعلمه وبحكمته وبعزته وبرحمته وبغفاريته وبرحمته يصبح متخلقاً بأخلاق الله، يعني يسير في درب الكمال. {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا} ليس المقصود الدعاء اللّفظي يعني: يا ربنا هب لنا، مثلما أنك تسأل من الله سبحانه وتعالى أن يهبك، أيضاً ينبغي لك أن تكون أنت قادراً على أن تهب، قادراً على أن تنفع.
الله عزّ وجلّ يتحّلى بهذه الكمالات؛ حتّى يدفع بخلقه إلى أن يتحلّوا بهذه الكمالات، فصفة العزّة صفة كمال، طبعاً ليست كمالاً خاصّاً بالله. نعم، تلك المرتبة الإلهيّة خاصّةٌ به، لكن أصل الصفة يمكن أن يتّصف بها الخلق كما يتّصف بها الله عزّ وجلّ بفارق أنّ الله عزّ وجلّ كمالاته ذاتيّةٌ لا تُنزع منه، وأمّا كمالات الإنسان فكسبيّةٌ يسعى إليها يمكن أن يصل إلى ما قدّره الله عزّ وجلّ أن يصل إليه أو ما قدّر الله أن يصل إليه، لكن يمكن أن تفوته، تسلب منه هذه الصفة إذا وقع في بعض منافياتها.
القرآن الكريم أيضاً وصفه الله عزّ وجلّ بأنّه عزيزٌ، وصفة عزيز يعني: ممتنع، يعني شديد قوّة امتناع رفعة ولذلك قد يخلط كثير من الناس بين فلان عزيز وفلان متكبّر، هما من وادٍ واحد لكن العزّة ترتبط بنظرتك أنت إلى نفسك.
التكبر هو في نفس الوادي لكن نظرتك في نفسك ولنفسك بلحاظ ما تعتقد أنك أفضل من الآخرين هذا تكبّر، هذا ممنوع. لذلك قيل أن الإمام الحسن (عليه أفضل الصلاة والسلام) – لأنه كان أعلى في أعلى درجات العزة – قيل له «إن فيك كبراً، قال بل فيّ عزة ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين». فرقٌ كبيرٌ بين الإنسان المتكبّر، وبين الإنسان العزيز. المتكبّر يرى نفسه أفضل من الآخرين باستحقاقٍ أو بغير استحقاق، العزيز لا ينظر بهذه النظرة، لكن العزيز لا يقبل أن يُذلّ.
سنأتي إن شاء الله لاحقاً على بعض التطبيقات الشرعيّة فيما يتعلّق بالعزّة. هل يجوز للإنسان أن يلبس لباساً يهتك به مثل لباس الشهرة؟ يقولون لا، لباس الشهرة يجعلك ذليلاً بين الناس، محتقراً بين الناس. تسريحة شعرك إذا لم تكن مناسبة بحيث يُشار بالبنان إليك، يعيبك الناس، أنت تصبح في موقع اذلالٍ بين الناس سواءً صارحوك بهذا أو لم يصارحوك.
فالشارع المقدّس حريصٌ على أن يبقى الإنسان عزيزًا. إذا أردت أن تخرج من بيتك ينبغي أن تلبس لباساً ليس لباس البِذلة في البيت، لكن إذا أردت أن تخرج خارج المنزل لا بد أن تلبس اللباس اللائق الذي يحفظ شخصيتك وكرامتك وعزّتك بين الناس، هذه تطبيقاتٌ نأتي على ذكرها لاحقاً.
يقول الله عزّ وجلّ عن القرآن الكريم ماذا؟ يقول: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمّا جاءَهم وإنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ} يعني رفيعٌ عالٍ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هذه مكانة العزّة. عزّة القرآن الكريم جعلته في مقام أسمى من أن يصل إليه الباطل. المؤمن الذي يهتدي بالقرآن الذي يهدي للتي هي أقوم، يجب أن يتحلّى بأخلاق القرآن الكريم فيرتقي بنفسه بحيث لا تصل إليه الشوائب. يقول أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام): «من كرمت عليه نفسه ترك المهانات» كلّ الشهوات ما يهينه. الإنسان الكريم، الكريم أحد أشكال التطبيقات العزّة هي إنسان يشعر بكرامة نفسه لا يرتكب ما يجعله في مقامٍ منافٍ لهذا المعنى. كذلك الله عزّ وجلّ يقول في القرآن الكريم عن النبيّ. دور النبي ما هو؟ تعليم العزّة للناس، إخراج الناس من الظلمات؛ لأنّ الإنسان إذا بقي في عالم الظلمات يكون تائهًا، يذهب يميناً، في حين كان يجب عليه أن يذهب إلى الشمال، يذهب شمالاً في حين كان يجب أن يذهب إلى اليمين؛ فالإنسان إذا انتقل من الظلمات الى النور ببركة الله عزّ وجلّ وهداية الرسول يعرف ما له ويعرف ما عليه، يعرف أين يتقدّم ويعرف أين يتأخّر. لذلك نقرأ في الروايات عن أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسلام) حينما يؤكّدون على التفقه والعلم: «لو أتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقه في الدين لأوجعت ظهره بالسوط».
هم لا يريدون أن يربوا قطيعاً من الناس حالهم حال البهائم – أجلّكم الله -، هم يريدون إنساناً سويّاً، إنساناً كريماً، وهذه التي تدفع بالإنسان إلى أن ينتقل من عالم الذلّة في كلّ تصرّفاته، في جميع مناحي حياته إلى عالم العزّة عالم الكرامة؛ لأنّ الإنسان كلّما تكاملت شخصيته كان أقرب إلى الله عزّ وجل.
يقول عزّ وجل في سورة إبراهيم: {الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}. في آيةٍ اخرى ماذا يوصف النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} يؤذيه و يتعبه أن يكون الإنسان في حالة من الضيق: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}. لذلك هذا الرؤوف الرحيم يعطيك تكليفاً فيه شيء من الثقل، لكن لأنّه يصبّ في مصلحة. كيف أننا نلزم أبناءنا الصغار الأطفال الذين بعد لم يدركوا الحلم نوقظه رغماً عن أنفه، ندفع به إلى المدرسة رغماً عن إرادته، نقيمه الدواء اللازم رغماً عن إرادته واختياره ؛لأنّه لا يعرف مصلحته. والله عزّ وجل كلّف الأبوين بأن يقوما بتأمين مصالحه. فلا مانع من أن تسلب إرادة الإنسان في حدود قصوره. ويجب على الإنسان بينه وبين الله أن يقرّ بأن الله هو الكامل وأنه هو القاصر {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}.
هناك عدد من القواعد، بعد هذا التمهيد، أذكر عدداً من القواعد نأتي على تفصيلها إن شاء الله فيما يأتي.
القاعدة الأولى هي: أن هذا العالم الذي هو مقدّمة للعالم الآخر هي دار امتحان وابتلاء، وإذا كانت الدنيا دار ابتلاء وامتحان يعني قد تحرم من أشياء كثيرة تتمنى حصولها، لكنها لا تحصل لك. بعض الناس ماذا يفعل؟ ينزل من عالم العزّة الذي ينبغي أن يسير فيه إلى عالم الذلة، يبيع كرامته، يتودّد إلى من لا يستحق أن يُتودّد إليه. نأتي إن شاء الله على ذكر بعض الشواهد على ذلك. هل يجوز للإنسان أن يذلّ نفسه؟ يقولون لا، في الروايات واردة عندنا أن الله عزّ وجل فوّض إلى المؤمن كلّ شيء إلا أن يذل نفسه. كيف يذلّ الإنسان نفسه؟مثلاً يُطلب من إنسان أن يقوم بأمرٍ من الأمور هو يعرف من نفسه أنّه عاجز عنه، لا يستطيع أن يقوم بهذا العمل. هو في الحقيقة إذا تصدّى له سيكشف كل سوءاته أمام الذين أبدى في مجالسهم استعداده أن يقوم بهذا الأمر هل يجوز له أن يفعل هذا المعنى؟ لا! لا يجوز للإنسان لأن كرامتك ليست ملكاً لك.
لذلك في الغيبة، الغيبة ليست حقًّا شخصيّاً، الغيبة حكمٌ إلهيّ. ليس لك أن تعطي للناس تقول: أنتم في حلّ اغتابوني، لا! لك أن تعفو عنهم فيما مضى، لكن ليس لك أن تبيح لهم أن يرتكبوا في حقّك، أن يعصوا الله في حقك، وتقول: كرامتي وسمعتي هي مباحةٌ لكم، افعلوا ما شئتم، اغتابوني كما تشاؤون. هذا ليس من حقك هذا، كرامتك من شأن الله عزّ وجل، أمانة الله سبحانه وتعالى عندك.
فإذاً الإنسان يتقلّب بين الغنى والفقر بين القوّة والضعف، بين الصحّة والمرض. هل يجوز للإنسان أن يتخلّى أو أن يتوقّع أنه يبقى دائمًا في حالة عزّة ومنعة؟ لا، كثيرٌ من الأحيان الإنسان يكون مضطرّاً إلى أن يرضخ إلى القبول والتسليم بأشياء ليست في مصلحته. مثلاً، الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) والذي نستقبل في الأيام القريبة ذكرى شهادته (صلوات الله وسلامه عليه) كيف تشمت الطاغية بمقتله عند السيدة زينب (عليها السلام)؟ يقول: «كيف رأيت صنع الله بأخيك؟ قالت: ما رأيت إلا جميلاً».
استسلام الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام) لمّا امتحنه الله عزّ وجل به وابتلاه. ليس هذا في عالم الذلة حتّى يقول الإنسان: أنا في شأني لا يسمح لي أعرض نفسي لهذا، ما دام تكليفاً من الله سبحانه وتعالى، فعلى الإنسان أن يتحمل.
نأتي على هذا بمثال لو أن الإنسان حُرم من بعض النعم التي يأملها كلّ الناس، الغنى والثروة والجمال والأولاد والكرامة والعلم والذكاء. قد يحرمك الله عزّ وجل من هذا أو ذاك، كيف تطلبه؟ بعض الاشياء لا تُطلب. يعني الإنسان إذا خلق بمستوى ذكاءٍ معيّن لا يستطيع أن يطمح -العلم تستطيع أن تتوسّع في علمك تطلب العلم- لكن قدرة الذكاء لا يستطيع الإنسان أن يغيّر من قدرة الذكاء عنده هكذا خلق الله عز وجل فلاناً، بهذا المستوى من الذكاء. يمكنه أن يعوض عن منسوب الذكاء المتوسط عنده بسعة العلم فيصبح أفضل من الذين هم أشد ذكاء منه لكن نفس الذكاء، لا. خلقك الله بهذا الطول بهذا العرض بهذا الشكل بهذه الكيفية في هذه المنطقة من هذين الأبوين من هذه العشيرة لا ينبغي للإنسان أن ينظر إلى نفسه بذلة؛ لأنّ الله عزّ وجل خلقه أقصر من فلان أو أقلّ ذكاءً من فلان أو أنّ فلاناً أُعطي الشيء الفلاني وهو حُرم من الشيء الفلاني. الحقّ سبحانه وتعالى إذا أعطى لحكمة وإذا منع لحكمة. العزّة هي: أن يستسلم لما قدرّه الله عزّ وجل عليه وليس لما يفعله الناس به. قد يعتدي عليك أحد أو يتعمد إلى أن يهينك، هذا ليس مسموحاً لك أن تقبل. لنفترض لو أن أحداً كلّما قَدِمت عليه، تقرّبت منه من أجل تتعامل معه معاملة المؤمن للمؤمن، لكنه في الغالب هكذا دائماً يقطعك، يهينك. هل يجوز أو يجب على الإنسان أن يتواصل مع مثل هذا الشخص؟ لا، إذا عُرف عنه الغلظة والجلافة وسوء الأخلاق لا يجب عليك أن تتواصل معه؛ لأنّ كرامتك أمانة الله عزّ وجل عندك.
هذه واحدةٌ من القواعد التي ينبغي أن توضع في عين الاعتبار؛ حتّى لا يضحّي الإنسان بالعزّة التي يجب أن يطلبها ويقع في عالم الذلّة كما نشاهده عند من يعرف مثلا بالمتملّق. متّى يوصف الإنسان بأنه يتملّق إلى فلان؟ يزدريه الناس يقولون فلان تصرّف تصرفاً ما كان يليق به. يعني يتودّد إلى من لا يجب أو لا ينبغي أن يتودّد له. مؤمن محترم له كرامته عند الله عزّ وجل وعند الناس، ثمّ يذهب إلى شخص ليس في هذا الوادي ويتعامل معه معاملة من هو أفضل منه. لا، هذا نوعٌ من أنواع الذلّة لا ينبغي أن يقصد مثل هذا الإنسان إلا في حالات الضرورة الشرعيّة.
نسأل الله عزّ وجل أن يجعلنا وإيّاكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم صل على محمد وآل محمد.
اللّهم كن لوليك الحجة ابن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعة وفي كل ساعة، ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً حتى تُسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً.
اللهم انصر الاسلام والمسلمين واخذل الكفار والمنافقين، اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وأغن فقراءنا وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا يا كريم. وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.