«آفتا التقصير والقصور (2)» يوم الجمعة 21 ذي الحجة 1445 هـ
نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «آفتا التقصير والقصور (2)» يوم الجمعة 21 ذي الحجة 1445 هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.
بسم اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدِ الخلقِ وأشرفِ الأنبياءِ والمرسلين محمدِ بنِ عبدِ اللهِ وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.
ربِّ اشرح لي صدري، ويسِّر لي أمري، واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي.
اللهم اجعل أعمالَنا خالصةً لوجهِك الكريمِ.
عبادَ اللهِ! أوصيكم – ونفسي – بتقوى اللهِ؛ وإن من دواعي التقوى استذكارَ أيامِ اللهِ، ومن تلك الأيامِ يومُ الغديرِ الذي مضى قبل ثلاثةِ أيامٍ، ويومُ المباهلةِ الآتي بعد يومين.
ويجدر بنا أن نستذكرَهما حتى نتجنبَ التقصيرَ والقصورَ، وذلك في ثلاثةِ عناوينَ:
العنوان الأول: كمالُ الدينِ
إن من نعمِ اللهِ تعالى المستوجبةِ شكرَهُ هو أنه منَّ علينا بكمالِ دينِهِ وتمامِ نعمتِهِ، فقال {.. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ..} [المائدة:3].
وهذا الكمالُ يعني ثلاثةَ أوصافٍ:
الوصف الأول: الشمولية
فمعارفُ الدينِ استيعابيةٌ؛ فليس هناك أمرٌ من الأمورِ، ولا مسألةٌ من المسائلِ، إلا وعليها من اللهِ تعالى بيانٌ.
قال الله عزَّ وجلَّ {.. وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ..} [النحل: 89].
وقال الإمامُ الباقرُ (عليه السلام) في شرحِ ذلك “أنزل على نبيِّهِ كتاباً بيَّن فيه ما كان وما يكون إلى يومِ القيامةِ“.
وقال عزَّ وجلَّ {.. مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ..} [الأنعام: 38]. وقال الإمامُ الرضا (عليه السلام) في شرحِ ذلك “إن اللهَ عز وجل لم يقبض نبيَّهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أكمل له الدينَ، وأنزل عليه القرآنَ فيه تبيانُ كلِّ شيءٍ، بيَّن فيه الحلالَ، والحرامَ، والحدودَ، والأحكامَ، وجميعَ ما يحتاج إليه الناسُ كملاً …“.
الوصف الثاني: الكمال والتمام
الكمالُ والتمامُ يعنيان أن معالجاتِ الدينِ الإسلاميِّ نهائيةٌ؛ لأنها كاملةٌ وتامةٌ، فليس فيها نقصٌ ولا قصورٌ، وليس لها مضاعفاتٌ ولا سلبياتٌ.
قال اللهُ تعالى {.. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ..} [المائدة: 3].
وقال تعالى – عن القرآنِ – {.. مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
الوصف الثالث: ضمانُ الطريقِ إلى الجنةِ
إن أحكامُ الشريعةِ الإسلاميةِ، ومعارفَها، ليست نظراتٍ وحلولاً للدنيا فقط، بل لها وللآخرةِ معاً. كما أنها تؤدي بالعالِم بها، والعاملِ بمضمونِها، إلى الجنةِ، وتبتعد به نهائيّاً عن النارِ. وذلك أنها تأخذ به إلى الصراطِ المستقيمِ.
قال اللهُ تعالى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين} [آل عمران: 85]. فالإسلامُ للهِ تعالى وحده هو المتقبَّلُ، والمسلِمُ هو الفائزُ، فالدينُ طريقٌ مضمونٌ إلى الجنةِ، ومَن خالف فهو من الخاسرين.
وقد روى الفريقان عن رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أنه قال “أيها الناسُ! واللهِ ما من شيءٍ يقربكم من الجنةِ، ويباعدكم من النارِ، إلا وقد أمرتُكم به …“.
إن هذا الكمالَ للدينِ، يفرض علينا – أيها المؤمنون – أن نتشبثَ به دون تزيدٍ فيه، ولا نقصانٍ منه.
وهذا يتوقف على تجنبِ الأهواءِ، والبدعِ، حتى لا نفتتنَ.
فقد روي عن أبي جعفرٍ الباقرُ (عليه السلام)، أنه قال :
“خطب أميرُ المؤمنين عليه السلام الناسَ، فقال :
أيها الناسُ! إنما بدءُ وقوعِ الفتنِ أهواءٌ تُتَّبع، وأحكامٌ تُبتدَع، يخالَف فيها كتابُ اللهِ، يتولى فيها رجالٌ رجالاً.
فلو أن الباطلَ خلص لم يخفَ على ذي حِجى، ولو أن الحقَّ خلُص لم يكن اختلافٌ، ولكن يؤخذ من هذا ضغثٌ، ومن هذا ضغثٌ، فيُمزَجان، فيجيئان معاً. فهنالك استحوذ الشيطانُ على أوليائِهِ، ونجا الذين سبقت لهم من اللهِ الحسنى“.
وهذا الحديث الشريفُ يبين مناشئَ الانحرافِ عن الدينِ وأسبابَ تحريفِهِ، وما هي العواملُ الأساسيةُ التي تسهم في ذلك.
ولنا في هذا الحديثِ وقفاتٌ:
الوقفة الأولى: أن الخطابَ صدر من الإمامِ عليٍّ (عليه السلام). وهذا يعني أن بوادرَ الفتنةِ قد حصلت في زمنِهِ، أو أنها كانت حاصلةً، بما يؤكد أن الأمةَ لم تلتزم بما أوصى به رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمتَهُ؛ من التمسكِ بالكتابِ والعترةِ، باعتبارهما حبلَ اللهِ تعالى، وضماناً عن الانحرافِ.
الوقفة الثانية: أن هذا الخطابَ، التربويَّ والتحذيريَّ في الوقتِ نفسِهِ، لم يكن نخبويّاً، بل خوطب به عمومُ المسلمين وكافتُهم بقولِهِ (عليه السلام) “أيها الناسُ!”.
الوقفة الثالثة: أن الخطاب لم يُلقَ لمعالجةِ فتنةٍ معاصرةٍ للإمامِ (عليه السلام)؛ حتى يُتعاملَ معها باعتبارها حدثاً تأريخيّاً، يمكن تجاهلُهُ وتناسيه لهذا السببِ أو ذاك. وإنما ألقي بغرضِ التأصيلِ لكيفيةِ التعاملِ مع الفتنِ، متى كانت، وأيّاً كانت، بدفعِها إن لم تقع، وبرفعِها إن هي وقعت.
يستفاد ذلك من قوله (عليه السلام) “إنما بدءُ وقوعِ الفتنِ“.
الوقفة الرابعة: أن الخطابَ تتبع جذورَ الفتنِ ومظاهرَها، وذكر أمرين:
الأول: الأهواء
وهي الميولُ النفسانيةُ غيرُ المنضبطةِ بقواعدِ العقلِ والنقلِ. وهي – بهذا الوصفِ – آفةٌ فتاكةٌ إذا جُعِلت معياراً للقبولِ والرفضِ؛ فقال (عليه السلام) “أهواءٌ تُتَّبع“.
الثاني: الرؤى والتصوراتُ
ونعني بها المتبنياتِ الفكريةَ، التي تمثل الصياغاتِ النظريةَ للميولِ النفسانيةِ المنحرفةِ، لكنها تُصاغ باعتبارِها أحكامَ الشرعِ ورؤاه، مع أنها لا تتوافق مع قواعدِهِ وأصولِهِ، لذلك صح وصفُها بأنها (بدع)، فقال (عليه السلام) “وأحكامٌ تُبتدَع“.
ولم يُغفِل الإمامُ (عليه السلام) التنبيهَ إلى وجهِ البدعيةِ والانحرافِ في هذه الأحكامِ؛ وذكر سببين :
أولهما: أنها تخالف القرآنَ الكريمَ؛ وهو الدستورُ الأساسيُّ لأحكامِ الدينِ ورؤاه؛ فوصفَها (عليه السلام) بقوله “يُخالَف فيها كتابُ اللهِ“.
ثانيهما: أن الأحكامَ الشرعيةَ الصحيحةَ يجب أن يكونَ المعيارُ فيها، والدليلُ عليها، موافقتَها للحقِّ والحقيقةِ، وأما الأحكامُ المبتدعةُ فالولاءُ فيها ليس كذلك، وإنما هو للأشخاصِ وما هو بحكمِهم؛ فتشمل القَبَليةَ والحزبيةَ والجهويةَ وأمثالَها، فوصفَها (عليه السلام) بقوله “يتولى فيها رجالٌ رجالاً“.
الوقفة الخامسة: أن الناسَ بفطرتِهم النقيةِ ميالون إلى ما يحقق مصالحَهم، غيرَ أن قصورَهم الإدراكيَّ من جهةٍ، وانحرافَهم النفسيَّ من جهةٍ أخرى، يؤديان بهم إلى القصورِ وسوءِ الاختيارِ، ويختلط عليهم الحقُّ بالباطلِ، فيميلون إلى الباطلِ تارةً، ويختلفون عليه وفيه تارةً أخرى.
وعليه، فإن اللازمَ عليهم هو التخلصُ من الشوائبِ ليبقى العقلُ يقظاً والنفسُ حيةً.
وإلى هذا أشار الإمامُ (عليه السلام) بقولِهِ “فلو أن الباطلَ خلص لم يخفَ على ذي حِجى [أي ذي عقل]، ولو أن الحقَّ خلص لم يكن اختلافٌ، ولكن يؤخَذ من هذا ضغثٌ ومن هذا ضغثٌ، فيُمزَجان، فيجيئان معاً“.
فالباطلُ الصِّرفُ لا يخفى على العاقلِ ولن يميلَ إليه، والحقُّ الصِّرف لا يتيح مجالاً للاختلافِ. والمشكلةُ تقع إذا مُزِج الحقُّ بالباطلِ وخُلِطا ببعضٍ، على اختلافٍ في نسبةِ المزجِ والخلطِ، وهنا يتفاوت الناسُ في القربِ من الحقِّ أو الباطلِ؛ كلٌّ حسب ما يلوذ بربِّهِ تعالى أو يبتعد عنه.
الوقفة السادسة: أن الناسَ فريقان؛ أولياءُ اللهِ وأولياءُ الشيطانِ.
أما أولياءُ الشيطانِ فضعفاءُ في تفكيرِهِم وتعقلِهم، ومن هنا سلَّموا أنفسَهم للباطلِ “فهنالك استحوذ الشيطانُ على أوليائه“.
وأما أولياءُ اللهِ فأقوياءُ بالاستمدادِ من ربِّهم عزَّ وجلَّ، وبنشدانِهم الحقَّ منه دائماً، “ونجا الذين سبقت لهم من اللهِ الحسنى“.
ولك أن تتساءلَ – أيها المؤمنُ، وأنت أيتها المؤمنةُ – عن السبيلِ في استثمارِ كمالِ الدينِ، وعن كيفيةِ السيرِ في سبيلِ اللهِ الذي اختطه للمؤمنين؟
وإليك الجوابَ في العنوانين الثاني والثالثِ.
أما العنوان الثاني: فوصيةُ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)
فقد روى الطبرانيُّ، بسندِهِ، عما فعله رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، سوم الغديرِ، فقال:
“نزل النبيُّ صلى اللهُ عليه [وآله] وسلم يومَ الجحفةِ، ثم أقبل على الناسِ، فحمد اللهَ وأثنى عليه، ثم قال : إني لا أجد لنبيٍّ إلا نصفَ عمرِ الذي قبله، وإني أوشك أن أدعى فأجيب، فما أنتم قائلون؟
قالوا: نصحت.
قال: أليس تشهدون أن لا إلهَ إلا اللهُ وأن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، وأن الجنةَ حقٌّ، والنارَ حقٌّ، وأن البعثَ بعد الموتِ حقّ؟ٌ!
قالوا: نشهد.
قال: فرفع يديه فوضعهما على صدرِهِ. ثم قال: وأنا أشهدُ معكم. ثم قال: ألا تسمعون؟!
قالوا: نعم!
قال: فإني فرطُكم على الحوضِ، وأنتم واردون عليَّ الحوضَ، وإن عرضَهُ أبعدُ ما بين صنعاءَ وبصرى، فيه أقداحُ عددِ النجومِ من فضةٍ، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين؟
فنادى منادٍ: وما الثقلان يا رسولَ اللهِ؟!
قال: كتابُ اللهِ، طرفٌ بيدِ اللهِ عزَّ وجلَّ وطرفٌ بأيديكم فاستمسكوا به لا تضلوا، والآخرُ عترتي، وإن اللطيفَ الخبيرَ نبأني أنهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوضَ، وسألتُ ذلك لهما ربي، فلا تقدَّموهما فتهلكوا، ولا تقصِّروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلِّموهم فإنهم أعلمُ منكم.
ثم أخذ بيدِ عليٍّ رضي اللهُ عنه فقال: مَن كنتُ أولى به من نفسِهِ فعليٌّ وليُّهُ، اللهم والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه“.
العنوان الثالث: ما أمر اللهُ به من المباهلةِ
وذلك أن نصارى نجرانَ لَما وفدوا على رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحاورهم وحاوروه، وأصروا على ضلالِهم، عرض عليهم أن يباهلَهم لتحلَّ اللعنةُ على الكاذبِ من الطرفين.
وهذا ما جاء في قولِهِ تعالى ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران: 61].
فسُقِط في أيديهم، وعلموا أنه المحقُّ وأنهم المبطلون، ونَكصوا.
ونختم بالقولِ إن الإيمانَ بكتابِ اللهِ، والتمسكَ بالكتابِ والعترةِ الطاهرةِ، يحولان بين الإنسانِ وبين الضلالِ والإصابةِ بآفتي التقصيرِ والقصورِ.
أعاذنا اللهُ وإياكم – أيها المؤمنون والمؤمناتِ – من التولي عن اللهِ وعن أوليائِهِ، وجعلنا وإياكم ممن يستمعون القولَ فيتبعون أحسنَهُ.
اللهم صلِّ على محمدٍ وآلِ محمدٍ.
اللهم كن لوليك الحجةِ بنِ الحسنِ، في هذه الساعةِ، وفي كلِّ ساعةٍ، وليّاً، وحافظاً، وقائداً، وناصراً، ودليلاً، وعيناً؛ حتى تسكنَهُ أرضَك طوعا، وتمتعَهُ فيها طويلاً.
اللهم انصر الإسلامَ والمسلمين، واخذل الكفارَ والمنافقين.
اللهم مَن أرادنا أو أراد أحداً من المسلمين بسوءٍ فأرده، ومَن كادنا فكِده.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وأغنِ فقراءَنا، وأصلِح ما فسَد من أمرِ دينِنا ودنيانا، ولا تُخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا، يا كريمُ.
وصلى اللهُ على محمدٍ، وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.