حديث الجمعة

«زينة المتقين – 5» – يوم الجمعة 11 ذي القعدة 1446 هـ

نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «زينة المتقين – 5» يوم الجمعة 11 ذي القعدة 1446 هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّد الخلق، وأشرف الأنبياء

والمرسلين، محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

ربِّ اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي. اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم.

عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله.

حديثنا عن (زينة المتقين)، كما وردت في دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال، وأول فقراته قوله صلوات الله وسلامه عليه اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَبَلِّغْ بِإيْمَانِي أكْمَلَ الإِيْمَانِ. القسم الأول من هذه الفقرة ذكرناه في الأحاديث الماضية.

نتناول الآن الشق الثاني، وهو بَلِّغْ بِإيْمَانِي أكْمَلَ الإِيْمَانِ.

الحديثُ عن الإيمان طويلٌ، وذو شجون، ومتشعِّب، وليس حديثاً ترفياً، وليس حديثاً فلسفياً صِرفاً، وإنما هو حديثٌ يرتبط بواقعِ كلِّ واحدٍ منا، ذكراً كان أو أنثى، كبيراً أو صغيراً، الأفراد والجماعات، في حال السِّلم، في حال الحرب، في حال المرض، في حال الصحة، في حال الغِنى، في حال الفقر … في جميع أحوال الإنسان، لا يستغني عن أن يكون من المؤمنين، وأن يطلب َالإيمان، وأن يُجدّدَ إيمانَهُ؛ لأن الإيمان ليس صفةً يتحلى بها الإنسانُ، وللمرة الأولى، ثم يُعفى من مراجعة إيمانِهِ أنه لا يزال عنده، أو أنه لا سمح الله زال وتآكل بواحدٍ من أسبابِ التآكل والزوال، كما سيتبيّن لنا.

***

ذكرنا فيما مضى أن الاعتقادات لها دورٌ أكيدٌ وقويٌّ في بناء المنظومة الأخلاقية. نحن لا نبحث عن أن نتخلّق بالأخلاق كيفما اتفق، وإنما الأخلاق المبنية على إيماننا بالله عز وجل؛ لأننا نرجو من خلال التخلّق بالأخلاق الحسنة، والتخلّي عن الأخلاق السيئة فضلَ الله عز وجل، وخيرَهُ العاجل والآجل في الدنيا والآخرة. لذلك الإمام عليه السلام. يقول: اللَّهُمَّ بَلِّغْ بِإيْمَانِي أكْمَلَ الإِيْمَانِ.

هناك ثلاثة منطلقات أذكرها، لأن الحديث عن هذا العنوان: تكامل الإيمان، سيأخذ منا أكثر من محل.

المنطلق الأول: أن القاعدة الفطرية التي لا يختلف عليها اثنان من البشر: أن الفاضل في كل شيء، خير من المفضول في كل شيء.

في العلم، إذا خُيِّر الإنسان بين أن يكون عالمًا أو أعلم، سيبحث عن أن يكون أعلم، لا أن يقف عند حدود العلم فقط، فضلًا عن أن يكون خالياً من العلم أصلًا، فلا يكون حتى يُفكّر في كونه أعلمَ!

وقِس على ذلك المال، والجاه، وكل شيء من الخيرات … إذا وازنّا بين ما هو في مرتبة متدنية، وما هو في مرتبة عالية، فإن الإنسان بطبعه يبحث عن الخير المقدم والمتقدم، فالكامل خير من الناقص، لذلك يمتنّ الله عز وجل علينا بقوله: ﴿.. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ..﴾ [المائدة: 3].

لما أكمل الإيمانَ، أي أن الإيمانَ كان موجودًا، المنظومة الإيمانية كانت موجودة، لكن قبل ذلك اليوم لم تكمل منظومة الإيمان، فلما أكملها اللهُ عز وجل، مَنَّ على الناسِ. فالمنة كانت حاصلة في المرتبة الأولى، لكنها في المرتبة الثانية أعظم امتنانًا، وأدعى لحمدِ الله عز وجل وشكرِهِ.

فالإمام عليه السلام ماذا يقول هنا؟

اللَّهُمَّ بَلِّغْ بِإيْمَانِي أكْمَلَ الإِيْمَانِ. لا يكفي أن يكون الإنسانُ مؤمناً، بل عليه أن يسعى إلى أن يتكامل إيمانه، بحيث يكون في كل يومٍ إيمانه خيرًا مما كان عليه في في يوم أو في يوم أمس. والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  في الحديث المشهور يقول: من استوى يوماه فهو مغبون(). لأن فضلَ اللهِ عز وجل في كل يوم متاح لك أكثر مما كان متاحًا في اليوم السابق، فإن لم تستثمر اليوم التالي، وبقيت على ما كنت عليه في السابق، فأنت مغبون. يعني: خسارة!

في عالم التجارة، يُقال إن الدولة الفلانية، أو المجتمع الفلاني خسر، والمراد: لم يُحقق ما كان يُمكن أن يُحققه. فمثلًا، إذا كان من المتوقع أن ينمو اقتصاد الدولة بنسبة 6%، لكنه لم يحقق إلا 5%، هذه الـ 1% التي كان يتوقع أن تحصل، يعدها خسارة في دخله القومي.

كذلك هو الحال في الجانب الإيماني، بل هو أشد خطورةً! إذ قد يكون الإنسانُ مؤمنًا بمعنى أنه: مصدقٌ بوجود الله وبوحدانيته، مؤمنٌ بأسمائه وصفاته، والملائكة والمرسلين والكتب، وكل ما فرض الله عز وجل على الناس أن يؤمنوا به … لكنه يغفل، أو يتعمد الإهمال، فنقص إيمانه، ولو من باب التطبيق. لأن الإيمان علمٌ وعمل، لا يكفي للإنسان أن يعتقد، وإنما يجب عليه أن يترجم إيمانه على المستوى السلوكي. في داخل بيته، في الدائرة الضيقة، بين جيرانه، في الدائرة الأوسع، في مجتمعه الكبير، مع العالم كله، بل مع من يحب ومن لا يحب، فإن الله عز وجل يقول: ﴿.. وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ..﴾ [المائدة: 8]، حتى مع العدو، يجب أن يكون الإنسان عادلاً، فلا ينسب إليه شيئاً لم يتحقق من ثبوت نسبته إليه.

المنطلق الثاني: الإيمان خير من الكفر

الناس في مراتبهم الإيمانية يتفاوتون. فمنهم من هو في القاع، لم يصعد، ولم يأخذ من الإيمان شيئًا، وهؤلاء هم الكفار، سواء لسبب الإهمال، أو الشهوات، أو الشبهات. لم يدخلوا في منظومة التوحيد، ولم يُقرّوا بأن الله وحده لا شريك له. فهؤلاء كفرة.

الناس في علاقتهم بالإيمان مراتب، إذا أردنا أن ننظر إليها عمودياً، هناك أناس في القاع لم يصعدوا، ولم يأخذوا من الإيمان بنصيب، وهؤلاء من نسميهم بالكفار. لسبب الإهمال بسبب الشهوات، بسبب الشبهات. لم يدخلوا في منظومة التوحيد، لم يعلنوا أن الله عز وجل هو وحدة الإله الذي يجب أن يعبد، وأنه ربهم الذي لا شريك له في الربوبية، مثل هؤلاء كفرة.

لكن هناك جماعة أخرى، التحقوا بالإيمان، لكن بعد لم يصعدوا إلى المراتب العليا. كما ورد في قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ..﴾ [الحجرات: 14] أنتم بعدُ في مرحلة الإسلام، يعني محكومون بحكم المؤمنين، أعلنتم قبول الله عز وجل على مستوى الشهادة له بالتوحيد، ولرسول الله صلى الله عليه وآله بالنبوة والرسالة، هذا يجعلكم من المسلمين لكم ما لهم وعليكم ما عليهم.

لكن الإيمان يجب أن يندكّ في ذاتك، فتصعد به في سلَّم الإيمان، أو أن تكون بدل أن تبقى في الدائرة الوسيعة، تدخل في الدائرة الأضيق، ليست دائرة الإسلام، بل الدائرة الأشد ضيقاً، وهي أن نسميك بالمؤمنين.

الإيمان، حينما نقول (الإيمان خير من الكفر)، لا نقصد به خيرية التفضيل، بحيث يكون الإنسان مخيراً بين أن يكون مؤمناً، أو أن يكون كافراً، فإن اختار الإيمان فوضعه سيكون أحسنَ!

هذه مثل قولنا: (الله أكبر). نحن لا نريد أن نقول أن غير الله كبير، لكن الله عز وجل يفوقه في الكبرياء، الكبرياء كلها لله عز وجل، فإذاً الكلمة أكبر، هنا خيرية تعينية، ليست خيرية تفضيلية، كما يقول العلماء.

المنطلق الثالث: الخير كله من الله سبحانه وتعالى

وقد ذكرنا فيما مضى أن الإنسان قد يقول: ما علاقة الاعتقاد بالأخلاق؟

الجواب: نحن نعتقد لأننا مؤمنون بالله عز وجل، وأنه هو الفاعل في هذا الكون، ولا شيء يتحقق للإنسان إلا بإذن الله، وبمعونته. لذلك يقول الإمام (عليه السلام): اللهم بلّغ بإيماني أكمل الإيمان. فلو كان كمال الإيمان فعلاً من العبد، ما احتجنا أن نقول: بلّغ، وما احتاج الإمام عليه السلام أن يقول بلغ بإيماني، أكمل الإيمان.

لأن المطلوب من الإنسان أن يرغب، وأن يكون جاداً في طلب الإيمان، لكن من الذي يحقق الإيمان في نفسه؟ الله سبحانه وتعالى. من الذي يرتقي بإيمانه؟ الله سبحانه وتعالى. الإنسان ليس عليه إلا أن يطلب، لاحظوا الآية ماذا تقول: ﴿.. إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ..﴾ [الرعد: 11].

فالتغيير متى ينشأ؟

أنت ترغب في التغيير من الحسن إلى الأحسن، أو من السيّء إلى الحسن. المرتبة الأولى مقدّمة، أي: من السيّء إلى الحسن، ثم من الحسن إلى الأحسن. أن تُغيّر ما في نفسك، أي: الدواعي والإرادة والمشيئة في نفسك، أن تطلب بجدّ ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ..﴾ [العنكبوت: 69]. المجاهدة تبدأ من داخل النفس، فإذا وجد الله سبحانه وتعالى الرغبة الجادّة في الإنسان، أعانه على نفسه. فأخذ به من دائرة الكفر إلى الإسلام، ثم من دائرة الإسلام إلى دائرة الإيمان.

وهناك آية قرآنية توضّح هذا الأمر بشكل واضح، حيث يقول الله عز وجل: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ..﴾ [النحل: 53]. كل النِّعم: النعم المادية، والنعم المعنوية النعم الظاهرة، النعم الباطنة، النعم على مستوى الأفراد، النعم على مستوى المجتمعات … كلها من الله.

لذلك، ما هو المطلوب منا؟

أن نقول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2].

فالحمد يعني الثناء، أي: أن كلّ الأسماء الحسنة، والصفات الكاملة، هي لله عز وجل. فالحمد كله له. وإذا كان فيك، أيها العبد، شيء من الحُسن أو الجَمال أو الكمال، فهو من إنعام الله عز وجل عليك. ويجب عليك أن تحمد الله على ذلك، الخير منه، والكمال فيه، يترشح منه على العبد، بقدر ما يطلب العبد.

أما الكسالى، الذين لا يطلبون من الله عز وجل يكلهم إلى أنفسهم. بحيث يغرقون في عالم من الأوهام، فيظن أن المال نعمة! الله عز وجل، يقول ﴿.. إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ..﴾ [آل عمران: 178].

فهذا المال الموجود عند غير المؤمن، قد يتوهّم أنه نعمة عليه، لكنه في الواقع سيكتشف لاحقاً أنه كان نقمة عليه! لأن الله عز وجل سيوقفه ويحاسبه ويعاقبه على كلّ نعمة أُسديت إليه! وصرفها في غير طاعة الله! ولذلك، لسان حاله كما يبيّنه القرآن الكريم: ﴿.. رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ..﴾ [المؤمنون: 99-100].  تبين لي أن كان عندي مال!  لقد تبيّن له: كان عنده مال، وجاه، وقدرات، لكنه لم يُحسن استثمارها. فيقول: أعطني، يا رب، مهلة، أرجع لأُصحح ما فات. فيأتيه الجواب من الله عز وجل بشكل قاطع: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾ [المؤمنون: 100]. هو قال كلمة، لكن كلمة الله سبقت: مَن يعمل خيرًا يُجزَ به و ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء: 123]. لا فرق بين كبير وبين صغير.

***

وهناك محطات متعددة سنتناولها بشكل متتابع، باعتبار أننا نعيش اليوم ذكرى ولادة الإمام الرضا (عليه أفضل الصلاة والسلام)، فنتبرّك بروايةٍ عنه ترتبط بهذا المقام، ونؤجّل بقية الحديث إلى الأسبوع الآتي. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من الأحياء والمستفيدين.

قال الدلهاث، خادم الإمام الرضا (عليه السلام) قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا اَلْحَسَنِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يَقُولُ: لاَ يَكُونُ اَلْمُؤْمِنُ مُؤْمِناً ..() الإمام (عليه السلام)  يريد أن يُبيّن أن الإيمانَ ليس شعارًا يُرفعه المؤمن. فمن يصف نفسه بأنه مؤمن، ويرغب في أن يكون كذلك، عليه أن يلتزم بمنظومة من الاشتراطات والصفات. سواء كان ذكرًا أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا … كل فرد يريد أن يصف نفسه بالإيمان، فعليه أن يلتزم بهذه الشروط والصفات.

لاَ يَكُونُ اَلْمُؤْمِنُ مُؤْمِناً حَتَّى يَكُونَ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ والإمام (عليه السلام) ليس في مقام الحصر، وإنما في بيان خصال وجَد أن من المهم التأكيدَ عليها آنذاك. وإلا فإن خصال المؤمن والإيمان كثيرة جداً، والدعاء دعاء مكارم الأخلاق كله يدور حول هذه الخصال، التي يلزم المؤمن أن يتحلى بها.

حَتَّى يَكُونَ فِيهِ ثَلَثُ خِصَالٍ: سُنَّةٌ مِنْ رَبِّهِ وَ سُنَّةٌ مِنْ نَبِيِّهِ، وَ سُنَّةٌ مِنْ وَلِيِّهِ.

لأن هذه منظومة الاعتقاد، نحن نعتقد بالله رباً وبمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) رسولاً ونبياً وبالأئمة (عليهم أفضل الصلاة والسلام) أئمة وأولياء. إذا اعتقد الإنسان بهذه المنظومة صار من المؤمنين، لكن هل يكفي مجرد الاعتقاد؟

الإمام يقول عليه السلام لا، ثمة التزامات عملية.

فَأَمَّا اَلسُّنَّةُ مِنْ رَبِّهِ فَكِتْمَانُ اَلسِّرِّ لا تخلو حياة الإنسان أي إنسان من أسرار. والأسرار هي: الحالات، والخصوصيّات، والإتصافات، والأفعال، التي لا ينبغي أن تُعلن للآخرين.

هناك علاقات بين الزوج وزوجته، من المعيب بل المحرَّم أحيانًا أن يتحدث الإنسان عمّا يكون بينه وبين أهله. الزوجة حرام عليها أن تتحدث، والزوج حرام عليه أن يتحدث.

نهج التعامل مع المشاكل الزوجية

وقد تحصل مشكلات بين الزوجين، لا ينبغي لهما أن يتسرّعا في الإفصاح عمّا جرى من سوء علاقات، حتى إلى الأبوين والأقارب. ينبغي أن يسعى قدر المستطاع أن يحلّ ما يحصل من إشكالات في الدائرة الضيقة بينهما، حتى أمام الأولاد، لا ينبغي أن تُعرض الخصومات وسوء التفاهم «فَإِنَّهُ مَنْ كَسَرَ مُؤْمِناً فَعَلَيْهِ جَبْرُهُ().

حينما يظهر الزوج والزوجة خصومته، وعداوته، مع الإشكال الذي حصل بينهما، أمام الأولاد، فهم في العادة يميلون إلى الأب، كما يميلون إلى الأم، وهذا الميل طبيعي، فطري. فإذا حصلت الخصومة أمامهم، فإنها تجرح مشاعرهم، ولا يستطيع الطفل أن ينحاز بسهولة إلى أحدهما. حتى لو علم أن الأب مخطئ، سيقع في حرج في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، والعكس. لذلك، إذا حصل إشكال، فليُغلق الزوجان على نفسيهما مكانًا معينًا، بعيدًا عن الأولاد، وليتظاهرا أمامهم بأن العلاقة حسنة.

هذا من الشعور بالمسؤولية تجاه مشاعر وعواطف الأولاد!

فالكل يعرف كم من البيوت فَسدت وتدمّرت لأنّ الأب أو الأم، أو كلاهما، لم يراعِ هذه النقطة. فيكبر الولد معقَّدًا، ويكون ضرره على نفسه، وعلى مجتمعه، بل على والديه.

وهذه مشكلة لا ينتبه إليها!

لذلك، إذا كان هناك شيء ينبغي أن يُسَر، فالمؤمن لا يكون مؤمنًا حتى يلتزم بكتمان السر.

وكذلك في المسائل الدينية. فالإفراط في الحوارات المذهبية خلاف ما أمر به الإمام (عليه السلام)، ليس كل شيء يُعلن أمام من هبّ ودبّ من الناس، أمام من يعلم ولا يعلم، من هو كفؤ أن يسمع، ومن ليس كفؤاً أن يسمع بعض المسائل، ليس لأنها باطلة! فبعض المسائل يجب أن يُراعى فيها الطرف الآخر، هل هو أهلٌ لأن يُخاطَب بها أم لا؟

فلكل إنسان مستوى معين، ولهذا أُمرنا نحن بالتقية، ومن أبعادها: عدم مخاطبة كل أحد بكل خطاب، وإنما أن يبين له ما هو أهل أن يستمع إليه ويتبين عنده. والنبي (صلى الله عليه وآله)  نفسه راعى ذلك، وهذا مبدأ يتفق عليه جميع المسلمين.

ويروى عن النبي (ص) أنه خاطب زوجته عائشة أنه قال: لولا أن قومك حديثو عهدٍ بإسلام، لفعلت كذا وكذا(). يعني: النبي يراعي أن الجماعة حديثو عهد، وأنهم انتقلوا لتوهم إلى الإسلام، فلم يغير كل شيء دفعة واحدة، لأن الإيمان لم ينضج بعد في نفوسهم. وبقيت بعض الأحكام الشرعية معلّقة حتى تتهيأ الأمة نفسيًّا وشعوريًّا وعلميًّا.

ثم يقول [الإمام الرضا] عليه السلام مستشهدًا على هذه الخصلة فأما السنة من ربه فكتمان سره . قال اللهُ تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجن: 26-27]”(). 

فلم تُكشَف كلّ الحقائق من الله للناس جميعاً، لأنهم غير مهيئين لتلقّي الوحي، وإنما اجتبى الله عز وجل واختص من سماهم الرسل والأنبياء، لأنهم يمتلكون خصائص معينة التي تؤهّلهم لذلك، حتى خُتمت الرسالة برسول الله (صلى الله عليه وآله).

وَأَمَّا اَلسُّنَّةُ مِنْ نَبِيِّهِ فَمُدَارَاةُ اَلنَّاسِ() تعني شبيه بما ذكرناه بكتمان السر، التعامل مع كل شخص بما يليق به، بما يناسبه، الصغير له أسلوب في التعامل معه، الكبير له أسلوب في التعامل معه، الوجيه له أسلوب في التعامل معه، البسيط من الناس له أسلوب في التعامل معه، السيء الأخلاق، تتعامل معهم بأسلوب، الإنسان الذي ينشرح صدره، تتعامل معه بالأسلوب المناسب. بعض الناس لو صارحته بالحق لا يتأبى، وبعض الناس يحتاج أن تأخذ خطوات حتى تقول له أنك أخطأت.

ويروي في سيرة الإمام الحسن والحسين (عليهم والسلام) حينما كانا صغيرين، ووجدا شيخا مسنا لا يحسن الوضوء، كيف تحايلا، وداراه؟

لم يريدا أن يجرحا مشاعر هذا الكبير في السن، والمفروض أن يكون عارفا بالوضوء، وأما هما، فصغيران يفترض لو بالحسابات الطبيعية أن يكون هو المعلم. قال يا شيخ، سنتوضأ، فانظر أينا أحسن وضوء؟ فبمجرد أن رأى كيف يتوضيان، اكتشف أن هذا هو الوضوء السليم، أما أنا لا أحسن الوضوء(). الإنسان أحياناً يلتفت بأدنى التفاته، هذا نوع من أنواع مداراة الناس.

وروي عن أحد أصحاب النبي أنه كان يصلي جماعة بجماعة من الفلاحين والمزارعين، واشتكوا إلى رسول الله أنه يطيل، يتخير السور الطوال في الصلاة. فاستدعاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له أفتان أنت يا فلان تريد أن تفتن الناس عن الدين؟()

بعض الناس، لنفترض شاب قد لا يرتدي الملابس المناسبة بالمسجد، أتى إلى المسجد بهذه الملابس غير المناسبة تماماً، ليست ملابس محرمة، لكنها ملابس تخالف قول الله عز وجل ﴿.. خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ..﴾ [الأعراف: 31]، ليس من الأدب ولا من كمال الإيمان أن يُنهر! ويقال له: اخرج من المسجد! ولا تأت إلى المسجد إلا بملابس محترمة!

ينبغي أن يتخيَّر الخطاب المناسب له، حتى لا يَنفر.

نحن يجب أن نسعى إلى أن نجذبه هو والفتاة وكل الناس إلى أن يأتوا إلى المساجد وهكذا.

فهذا نوع من أنواع مداراة الناس.

ثم الإمام (عليه السلام) يستدل، يقول: فَإِنَّ اَللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِمُدَارَاةِ اَلنَّاسِ فَقَالَ: خُذِ اَلْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ() العرف: يعني المتعارف بين الناس الذي يتقبله الناس، والمعروف: إنما سمي معروفا في مقابل المنكر، لأن المعروف هو الخصلة الحسنة التي يعرفها الناس ويتقبلونها. بخلاف المنكر فإنه القول أو الفعل السيء الذي تشمئز منه النفوس، وينكرونه، يعرفونه على مستوى النظرية، لكن لا يقبلونه على مستوى التطبيق، لذلك سمي المنكر.

وَأَمَّا اَلسُّنَّةُ مِنْ وَلِيِّهِ فإن الله عز وجل يقول ﴿.. وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ﴾().

وكما ورد في الحديث الشريف الصَّبْرُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ(). من لا يصبر، إيمانه يتآكل. وكثير من الناس ينخدش إيمانه من حيث لا يشعر، لأنه قليل الصبر! ﴿.. وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63]، يخاطبك الجاهل بكلام نابٍ بذيءٍ!

المؤمن لا يرد على البذاءة بالبذاءة؛ لأن البذاءة تناسب غيرَ المؤمن، أما المؤمن فلا يناسبه أن يكون بذيئاً، وإنما يخاطبه بالسلام، بالكلمة الطيبة، بالكلمة الحسنة، بالفعل الحسن، سيحاصر بذاءته وسوءه في نفسه، وسينتصر له العقلاء من الناس.

وقد يقول قائل: نحن نجد أن البذيء يجد له مناصري؟!

ضم إلى البذيء بذيئاً آخر، وإلى السيء سيئاً آخر!

الآية لا تقول وإذا خاطبهم الجاهلُ! تقول: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ﴾ فقد يخاطبك جماعات وفئام من الناس بالكلام السيء، لكن يكفي أن يكون معك الله سبحانه وتعالى ورسوله ووليه.

فعليك أن تتخير من القول القول الحسن، ومن الفعل الفعل الحسن والسديد، فإن الله عز وجل يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [الأحزاب: 70]، ويقول ﴿.. وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ..﴾ [الحج: 77] . المطلوب منا القولُ السديد، وفعلُ الخير، بهذا نكون من المؤمنين.

وأحد من تطبيقات الإيمان وتكامله، هو ما ذكره الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه)، بلغنا الله وإياكم ووفقنا إلى زيارته وأنالنا وإياكم شفاعته آجلا. وجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.

اللهم صلِّ على محمدٍ وآل محمد.

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن، صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعة، وفي كل ساعة، وليّاً، وحافظاً، وقائداً، وناصراً، ودليلاً، وعيناً، حتى تسكنه أرضك طوعاً، وتمتعه فيها طويلاً.

اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واخذل الكفار والمنافقين، اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وأغنِ فقرائنا، وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا.

اللهم اردد كيد كل كائد على جميع المسلمين والمؤمنين أينما كانوا.

اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا، وأغنى فقراءنا، وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا، ولا تُخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا يا كريم.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *