«ثقافة الأولويات (٢)» يوم الجمعة ١٦ ربيع الثاني ١٤٤٤ هـ
نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «ثقافة الأولويات (٢)» يوم الجمعة ١٦ ربيع الثاني ١٤٤٤ هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
ربّ اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدةً من لساني يفقه قولي،
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله،
تحدثنا في الأسبوع الماضي عن ثقافة الأولويات وأنّ حياة الإنسان العاجلة والآجلة لا تستقيم دون مراعاة هذه الثقافة. طبعاً التكليف الشرعي هو رعاية هذه الأولويات، لكن ما لم تتحول الأولويات إلى ثقافة في حياة الإنسان بحيث تُشكل الفلسفة التي ينطلق منها في فهم الحياة سواء كان ذاته أو ما هو حول ذاته مما يُرى وما لا يُرى، لا يُتصور أن أحداً يستطيع أن يراعي الأولويات أو يهتم بمسألة الأولويات. لذلك نجد أن حياة الإنسان تتأرجح بين حياة جادة وحياة كسولة، حياة مهمة وحياة ليست لها أي أهمية. والسبب هو أنه
في الأشياء التي يرى أنها مهمة جداً بغض النظر عن أنه يصيب في هذه الرؤية أو لا يصيب، نجده يوليها اهتماماً كبيراً، وخلاف ذلك نجده لا يهتم.
هل لهذه الفكرة جذور قرآنية؟ الجواب: نعم. القرآن من أوله إلى آخره يبني هذه الثقافة في وجدان الإنسان ليس بصيغة أفعل التفضيل. يعني ليست كل الآيات القرآنية تقول أكرم اتقى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ} [الحجرات – 13]. لكنها إذا حللنا الآيات والأحكام والمعارف والقيم الإسلامية التي سطرت في القرآن الكريم، نجد أنها تنطلق من هذه الرؤية. مثلاً لاحظوا قول الله- عز وجل- يقول {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف – 180]. يأمرنا الله عز وجل بأن ندعوه لأن له الأسماء الحسنى. ماذا يعني الأسماء الحسنى؟ طبعاً نحن حينما يسمي أحدنا الآخر أو يسمى الشخص فلان أو فلان ليس بالضرورة نراعي العلاقة المنطقية بين الاسم والمسمى. نسمي فلان جميل وقد يكون قبيحاً في شكله، نحن لا يعنينا كثير قد نكون من باب الرجاء. يعني الأب يهتم بأن يحسِّن اختيار اسم الولد برجاء أن يكون هناك تطابق وأحياناً لا يكون الأمر كذلك. لكن فيما يتعلق بالله- عز وجل- ليس هناك إثنينية بين الذات والاسم بين الاسم والمسمى. أسماء الله هي ذاته، يعني حينما نقول الله- سبحانه وتعالى- هو العالم، ليس العلم صفة منفكة عن الله -عز وجل- ثم تحلى بها. هو شيء وعلمه شيء آخر ثم ربطنا بين هذين فصار “الله العالم” لو كان الأمر من هذا القبيل لصار الله -عز وجل- مركباً والمركب يحتاج، والله -عز وجل- هو الغني الحميد. لذلك نقول صفاته عين ذاته لكن نحن في مقام التحليل نقول الله العالم، الله الوهاب، الله الرزاق، وإلا لو كان كل صفة شيء آخر لكان الله -عز وجل- متعدداً في كينونته بتعدد صفاته وأسمائه والأمر ليس كذلك. لاحظوا مثلاً اسم الله، هذا هو الاسم الجامع لجميع صفات الله -عز وجل- الحسنة. هذا الاسم هو الوحيد الذي يستبطن
والجود والاحسان وكل الصفات الالهية مستبطنة في هذه المفردة، الله. طبعاً ليس المقصود الحروف أيضاً، الحروف رمز لهذا الاسم الذي هو لله -عز وجل-.
أسوق عدداً من النماذج القرآنية التي بيّن الله -عز وجل- لنا هذا المبدأ فيه حتى نرسخه فينا. مثلاً يقول الله -عز وجل- الآية التي ذكرناها في الأسبوع الماضي ونعيد التذكير بها في سورة الحجرات [13] يقول: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}. بيّن لنا هذا الاختلاف بين الناس وأنه اختلافٌ طبيعي. الله- سبحانه وتعالى- خلق الناس شعوباً وقبائل لكن لا ليتناحروا بل ليتعارفوا، ليستفيد كل واحد منهم من خبرات الآخر التي يفتقدها. تفيد هذا الآخر ويفيدك هذا الآخر. لكن لا يجوز لكم أيها الناس أن تظنوا أن هذا التمايز القبلي والعشائري يجعل من قبيلة أفضل من قبيلة من قبيلة أخرى بمعاييركم. المعيار للتفاضل عند الله -عز وجل- وهذا مبدأ الرعاية يقوم على أساس أن كان أتقى كان أكرم. من أراد أن يكون أشد قرباً إلى الله -عز وجل- بحيث يكون أكثر حظوة عنده -سبحانه وتعالى- فليتنافس في التقوى {وَفِى ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَٰفِسُونَ} [المطفّفين – 26]، هذا نموذج.
النموذج الثاني يقول الله -عز وجل- في سورة الملك {ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ} [الملك – 2]. أيضاً يريد أن يكرس أن المطلوب من الله -سبحانه وتعالى- أو مطلوب الله من الناس ليس أن يعملون فقط {وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُۥ وَٱلْمُؤْمِنُونَ} [التوبة – 105]. يريد منك أيها الإنسان أن تعمل لكن ليس أي عمل بل العمل الأحسن والصالح والأحسن. العمل الصالح هو في ميزان الله -عز وجل- الأحسن. طبعاً كيف يكون العمل الصالح؟ هنا نحتاج إلى الضوابط الشرعية حتى نميز الحلال عن الحرام، الحسن من الأحسن، الجيد والأجود وهكذا، والأحكام الخمسة التي أشرنا إليها في الأسبوع الماضي.
النموذج الآخر، الصبغة الإلهية سواء فسرناها بالدين، فسرناها بالفطرة، فسرناها بالشريعة، فسرناها بالطبيعة الإنسانية، أياً كان ما يُنسب إلى الله وما يفُد علينا وإلينا من الله -عز وجل- لا يجوز لنا كبشر ونحن نعرف أن الله -عز وجل- له الأسماء الحسنى أن نفاضل ولا أن نساوي بينما يأتي من الله وما يأتي من غير الله- عز وجل-. ما يأتي من عند الله عز وجل وأنت مغمض العينين، نقول يجب أن يكون هو الأفضل لأن الله -عز وجل- لا يوجد في ساحته نقص فما يأتي منه -سبحانه وتعالى- هو الأفضل على الإطلاق. يقول -عز وجل- {صِبْغَةَ ٱللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُۥ عَٰبِدُونَ} [البقرة – 138]. هذا القسم الأخير كأنه يبرر، كأنه يفلسف، لماذا يجب أن نكون نحن عابدين لله عز وجل؟ لأن هذه الصبغة من الله وصبغة الله أحسن بالمطلق.
نموذج آخر يقول عز وجل في سورة البقرة: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)} الآية ذكرت شيئاً يعني كأنه بمثابة شرط ولم تذكر الجزاء. يعني ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لتركوا ما عندهم، ما كانوا يفعلونه في الدنيا! ولا انحازوا إلى مثل ما اختاره المؤمنون، لأن المؤمنين ماذا اختاروا؟ اختاروا الله عز وجل في مقابل غيره. لأن الحب ولا يخلو أحد منا من الحب، حب الطعام، حب المنزل، حب البلد، حب عشيرة، الإنسان كتلة من المشاعر يحب ولا يحب. المؤمن لا يسترسل وراء مشاعره وإنما يتحكم فيها فيجعل قلبه وراء عقله. يرى بعقله أولاً، فإذا رأى الجمال والكمال في جهة مال قلبه إلى الجهة التي أبصرها ورأى فيها. لكن إذا عمي بصره وعميت بصيرته اختلط عليه الحابل والنابل، ما عاد يستطيع أن يعرف الفاضل من المفضول، فيقدم هذا على هذا مع أن الواجب كان أن يعكس. المؤمنون يحبون من؟ المؤمنون أشد حباً لله لأننا حينما نقول الله يعني الكمال المطلق، الجمال المطلق، الحق المطلق، الخير المطلق، البقاء المطلق، كل شيء ما عدا الله عز وجل هالك وزائل. العاقل والمؤمن كيس الفطن إذا كان في مقام التفاضل وأنت في حياتك لا تستطيع إلا أن تفاضل بين الأشياء. ولذلك تختار هذا على هذا. إذا وجدت أحدا يفضل شيئاً على شيء فلا بد أنه رأى فيه جمالاً يفتقده الذي انحاز عنه إلا أن تنحرف فطرته. إذا انحرفت فطرته يقدم المفضول وهو يعلم بأنه مفضول على الفاضل وهو يعلم بأنه فاضل.
أيضاً نموذج آخر وأخير نقف عنده، يقول الله عز وجل في سورة التوبة لأن هناك عاملين هذين العاملين يحضران بقوة في حياة الإنسان الفرد وحياة الإنسان الجماعة: جلب الخير ودفع الضرر. هذا ليس فيّ وفيك كبشر حتى في الحيوانات تسير بسيارتك فإذا بهرة في الشارع، هذه الهرة تتردد تتقدم أو تتأخر تذهب بهذا الاتجاه أو بذاك الاتجاه لأن الله عز وجل وهبها من الإدراك ما يجعلها تُميز وتختار ما يصب في مصلحتها لأنها لو جازفت هي تفكر ليس بمقدار ما يفكر الإنسان لكنها تنطلق من التفكير. الله -سبحانه وتعالى- فطرها على حب نفسها حتى تبقى لذلك تقف للحظات ثم تخير، قد تخطئ في الخيار فتموت بهذا بسبب هذا الاختيار لكن نتكلم عن المبدأ.
المؤمن أيضاً هكذا أو الإنسان بشكل عام يحكمه هذان العاملان، يحب دائماً جلب الخير ويحب دائماً دفع الضرر، هذا نظرياً. لكن في مقام التطبيق قد تضعف إرادته وقد تختل معلوماته. لذلك الله -سبحانه وتعالى- كلفنا بأن نبني عقولنا وقلوبنا على أن تكون ناضجة، نرى الأشياء كما يجب ونميل للأشياء كما يجب.
يقول الله عز وجل في سورة التوبة: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ}. من المخلفون؟ منافقون وضعفاء الإيمان الذين كان يعيش بينهم خير من خلق الله خلق الله -سبحانه وتعالى- وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله). يسمعون القرآن من فمه الشريف تنزل عليهم هذه الشريعة الخاتمة والفضلى ثم يبحثون عن أعذار حتى يتخلفوا عن ركب الرسول {فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ} يعني لم يلتحقوا به بالمعركة {وَكَرِهُوٓاْ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِى ٱلْحَرِّ} [التوبة – 81]. معركة تبوك التي ذهب إليها رسول الله كانت في شدة الحر. كانوا يبررون ويثبطون أيضاً أن الوضع حار الطقس حاراً لا يسمح لنا ولا ينبغي لكم أن تتحركوا. بماذا يخاطبهم الله عز وجل؟ {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُواْ يَفْقَهُونَ}. لكن هؤلاء لا يفقهون.
لماذا لا يفقهون؟ بصائرهم عمياء. عميت بصائرهم قصرت أنظارهم. لا يرون أبعد من أنوفهم، شغلتهم بطونهم وفروجهم. مِثل هؤلاء إذا سيطر هذه النفس على الإنسان تختلط عنده المعايير، لا يستطيع أن يراعي الأولويات بل لا يهتم بمراعاة الأولويات فتجده والبهيمة سواء أجلكم الله. يقول أمير المؤمنين: «أأكون كالبهيمة المربوطة همها علفها؟» خلقني الله عز وجل إنسان، يجب أن أفكر كما يجب أن يفكر الإنسان، كما يصب في مصلحة هذا الإنسان. فلو أن الإنسان هبط بمستواه بحيث لا يعنيه إلا الملذات والشهوات والمتع العاجلة على حساب الباقي الخالد وهو الجنة التي وصفها الله عز وجل بأن: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران – 31]. هذا سيكون أحمق هذا لن يكون مؤمنا لأن المؤمن كيساً فطناً، نسأل الله عز وجل أن نكون وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
اللهم صل على محمد وآل محمد، اللهم كن لوليك الحجةِ بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصرا ودليلاً وعينا، حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين واخذل الكفار والمنافقين، اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وأغن فقرائنا وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا يا كريم، وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.