«الاستقامة والتقويم (٣)» يوم الجمعة ٢٦ رجب ١٤٤٤ هـ
نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «الاستقامة والتقويم (٣)» يوم الجمعة ٢٦ رجب ١٤٤٤ هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّد الخلق وأشرف الأنبياء والمرسلين محمد بن عبدالله وعلى آله الطيبين الطاهرين.
ربي اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.
عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله.
كنا ولا نزال نتحدث عن الاستقامة والتقويم باعتبارهما تكليفيين شرعيين، وأن الإنسان لا يستغني عنهما في تنظيم شؤون حياته في الدنيا ونيل السعادة في الآخرة.
ولما كان هذا الإنسان كائنا معقداً فلن يكون حال الإنسان أقل شأناً من أيّ جهاز يملكه الواحد منا؛ فإن الإنسان إذا اقتنى جهازاً من هذه الأجهزة فإن أول ما يهتم به “دليل الاستعمال”.
لأن هذا الدليل – المسمى بالكتالوج باللغة الدارجة – هو الذي يتيح للإنسان الفرصة أن يتعرف على خصائص هذا المنتج، وكيف يجب أن يستعمل؟ في حدود ما يمكنه أن يطلع عليه.
أما إذا أراد أن يغوص في أعماق هذا الجهاز والمنتج فقد يحتاج الأمر إلى ما هو أكثر من دليل الاستعمال، وإنما دليل الإنتاج.
ولذلك فإن هذا الجهاز الذي نحسن استعماله في كثير من الأحيان إذا طرأ عليه ما يجعله عاطلاً نعجز عن معالجته فنذهب به إلى المتخصص.
هذا الإنسان أكثر تعقيداً من أي جهاز تتصوروه في عالم الدنيا.
هذا الإنسان -أولاً- هو مخلوق من الله -سبحانه وتعالى- وخلقته هذه تتناسب وحكمة الله وكماله ولطفه فلا ينبغي لأحد أن يتصور أن حاجبه هذا هو فقط من أجل الجمال!
لا! المسألة ليست فقط جانب جمالي، وإنما له أهداف أخرى، أهداف كثيرة نطلع على بعضها ويخفى عنا كثير منها.
هناك رسالة أملاها الإمام الصادق – عليه أفضل الصلاة والسلام – عُرفت بـ”توحيد المُفضّل”.
المفضل ابن عمر كان من المهتمين بجانب المعارف الدينية لأن التعاليم الدينية بعضها أحكام شرعية ترتبط بما يعرف بالفقه وبعضها يرتبط بالاعتقادات والعالم السابق لهذه الدنيا والعالم اللاحق لهذه الدنيا هذا ما يعرف بالمعارف.
والإمام الصادق – عليه أفضل الصلاة والسلام – عُني بأن يجعل من أصحابه متخصصين، هناك مَن هم مختصون في علم الرواية، هناك من هم مختصون ومهتمون بعلم الفقه والأحكام، هناك من هم مختصون بعلم الكلام، وهناك مختصون بعلم الكيمياء كجابر ابن حيان، وهناك تخصصات كثيرة كل واحد كان يعطيه ما يناسب قدراته واحتياجات الناس.
لأن الإمام الصادق – عليه أفضل الصلاة والسلام – يعرف كم هي الجريمة التي وقعت على هذه الأمة، أو أُوقعت بهذه الأمة، فصار الناس بعيدين جدا يجب أن يعرفوه ويكونوا على فقهٍ منه. ولذلك، نجد في علم التفسير ما يعرف بالإسرائيليات. لمّا أبعد أهل البيت الذين هم حملة هذا الكتاب الكريم صارت الساحة خالية عن معرفة معاني الآيات. فلجأ المسلمون إلى القُصّاص وإلى الذين كانوا يهوداً فتظاهروا بالإسلام، أو أسلم بعضهم، أو كانوا نصارى فأسلموا، أو تظاهر بعضهم بالإسلام، فوفد على هذه الأمة الكثير مما يعرف بـ “الروايات الإسرائيلية” عن قصص الأنبياء وحوادث السابقين. وهذه صارت طامة من طواقم الفكر الإسلامي التي لا نزال نعاني منها ويسعى العلماء قدر استطاعتهم للتعرف على هذه الإسرائيليات وتلمس مخاطرها وتجنب الآثار السلبية لها.
الاستقامة تعني الاستقامة الشاملة، يعني أن يكون فكر المؤمن والمسلم فكراً سليماً صائباً مهتدياً بهدي الله – عز وجل -، والتقويم يعني أن يسعى في أن يكون سائراً على نهج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الدعوة إلى الله على بصيرة.
ولا يمكن للإنسان أن يكون داعيا محبوبا مرضيا عند الله – عز وجل – ما لم يكن عارفاً بهذا الدين وبمقدار معرفته بهذا الدين، يتيسر له أن يكون على بصيرة وأن يتأهل للدعوة إلى الله – عز وجل – وأن يقوم شأن الناس في العلم والعمل في الفكر والسلوك والنفسيات.
هذا جانب كثير مهم، لاحظوا القرآن الكريم ماذا يقول.
الله -سبحانه وتعالى- يُصدِرُ أمراً لرسوله والأوامر لرسول الله ما لم يقم دليلٌ على أنها خاصة به يشترك فيها سائر المسلمين. وهناك قاعدة يسمونها قاعدة الاشتراك كل الأحكام الشرعية والتعاليم تُحمل على أنها خطاب لجميع المكلفين إلا ما قام الدليل على أنه مستثنى منه. كأن يكون الحكم متوجها لشريحة النساء يستثنى منه الرجال، أو يكون موجها للرجال واستثنى منه النساء، أو يكون مختصا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتستثنى منه الأمة.
مثلاً صلاة الليل واجبةٌ على رسول الله، لكنها علينا مستحبة. الزواج بأكثر من أربع نساء، خاصٌ برسول الله لا يشاركه فيه غيره. الجهاد الواجب في سبيل الله ليس جهاد الدافع جهاد الابتدائي، خاصٌ بالرجال يستثنى منه النساء. وهناك أحكام خاصة بالنساء لا يشاركهم فيها الرجال.
من الأحكام المشتركة الاستقامةُ.
الاستقامة ليست حكما خاصا بفريق دون فريق ولا فرداً دون فرد. من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجب عليه أن يستقيم مع علمنا وعلم الله – عز وجل – أنه معصوم مستقيم لا يمكن أن ينحرف لكن مع ذلك يقال له، اتق الله! اتق الله لا يعني هذه لا يوجه الخطاب لمن ليس متقياً حتى يؤمر بأن يتقي الله. حتى المتقي يقال له اتق الله.
بهذا المعنى مثل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وكذلك الاستقامة فيقول: {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [الشورى: ١٥]. وهناك آية أخرى {وَمَن تَابَ مَعَكَ} في سورة هود [هود: ١١٢].
نعيش هذا اليوم ذكرى شهادة مولانا أبي الحسن موسى بن جعفر -عليه أفضل الصلاة والسلام- والذي قضى مسموماً مظلوماً في سجن طاغية زمانه، ويحتفل المؤمنون في الخامس والعشرين من شهر رجب من كل عام بهذه الذكرى الأليمة. وهو واحد من أئمة أهل البيت الذين ورثوا علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتكّفل بحمل هذا العلم وتدوينه أو نقله إلى الناس وفقاً للظروف التي أتيحت له.
ومما رواه صلوات الله وسلامه عليه بالإسناد كما يذكره القطب الرواندي – رحمه الله – في نوادره وينقله عنه الشيخ المجلسي في بحار الأنوار، يقول عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والذين نستقبل بعد يومين بعثته الشريفة. أعظمُ حدثٍ مر على البشرية هو بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). ليلة مباركة ويوم مبارك فيه سلسلة من الأعمال العبادية وكذلك في نهاره ينبغي للمؤمنين ألّا يقصروا في الاحتفال بهذه المناسبة ابتهاجاً من جهة، وتعبداً لله عز وجل من جهة أخرى وشكراً لله عز وجل على نعمة البعثة ونعمة التدين بدين الإسلام.
ماذا يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويرويه الإمام الكاظم غيرنا أيضاً عن آخرين؟
يقول صلوات الله وسلامه النبي (صلى الله عليه وآله): «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».
هذا توجيه نبوي كريم يلامس فيه ما ينشده كل واحد منا. ليس في الناس أحد صغير صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، عاقلاً أو لو أو حتى لم يكن عاقل، حتى المجانين يبحثون عن الخير لأنفسهم، لكن كل بما آتاه الله -عز وجل- من العقل. الخير الذي ينشده رسول الله بالتأكيد ليس هو الخير الذي ننشده لأنفسنا. رسول الله أُفقهُ أوسعُ بما لا يقاس بآفاقنا، همته تفوق هممنا، اهتمامه يفوق اهتمامنا ويختلف عنه. نحن أيضاً لنا اهتمامات، لكن كما ذكرت حتى الصبيان الصغار والمجانين يبحثون عن الخير، كلٌ بما آتاه الله -عز وجل- من العقل والعقل نعمة.
هذا الإنسان الباحث عن الخير كيف يتيسر له أن يبحث عن الخير؟ إن لم يكن يعرف ما هو الخير؟ وما هو مصدر الخير؟ وما هي الموانع التي تحول بين الإنسان وبين أن ينال الخير؟ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يذكر لنا باباً ومفتاحاً لذلك كله وهو الفقه في الدين. والسبب هو أن الله -عز وجل- إنما بعث الأنبياء وتوالى موكب الأنبياء نبياً بعد نبي وما من أمة إلا وفيها نذير من أجل هذا الهدف هو أن يتدين الناس بدين الله -عز وجل- لأن كل الناس عندهم دين. حتى الملاحدة الذين يظنون أنه لا دين لهم دينهم الإلحاد لأن هو الدين هو مجموعة القناعات التي ينطلق منها الإنسان وينظم بها حياته. الملحد له دينه والمتدين بدين الله له دينه. فمسألة أن يكون فلان ضد الدين ليس هناك أحد ضد الدين!
نعم، هناك أحد ضد دين الله، وهناك مؤمن ضد دين إبليس هذا هو الفارق. الذين يطيعون إبليس لهم دينهم، والذين يطيعون الله – عز وجل – لهم دينهم.
لأننا نعيش في جو مؤمن وجو مسلم حينما يقول النبي (صلى الله عليه وآله): «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» هذه الألف واللام تسمى عهدية يعني الدين الذي تعرفونه. الدين الذي تسمونه أنتم بأنه الإسلام {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: ١٩]. يعني الدين الذي يرتضيه الله – عز وجل – لعباده هو أن تستسلموا له ليس حباً في أن يتسلط عليكم فأنتم شئتم أم لم تشاؤوا أنتم عبيده. الناس مخلوقون لله -عز وجل- لا سلطان لأحد على الناس إلا الله -سبحانه وتعالى- فهو لا يحتاج أن يأمر بالدين حتى يتسلط. السلطة قائمة حاصلة وليست كسلطة غيره من الناس الذين يتوهمون أنهم قادرون على أن يتسلطوا على الناس.
الله – عز وجل – له الملك {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}؟ في يوم القيامة الله – عز وجل – يجيبه الناس {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: ١٦] في الدنيا لله – عز وجل – المُلك أيضاً. لكن الله -عز وجل- ترك للناس هامشاً بسيطاً في أن يختاروا، أن يذعنوا لهذا المُلك والسلطان أو يتمردوا عليه {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: ٢٩]. هذا ليس لأن الله -عز وجل- أباحَ لهذا أن يؤمن وأباحَ لهذا أن يكفر! بل ألزم الناس أن يؤمنوا به، ويتدينوا بدينه، وهدد وتوعد أولئك الذين لا يؤمنون بدينه بأن لهم جهنم وأن مصيرهم تلك العاقبة التي لا يتمناها أحد!
الإنسان الطالب للخير لا يمكن أن ينال الخير إلا أن يتفقه في دين الله. لأن الدين، الدين ما هو؟
الدين هو نظام الحقوق والحدود أن يعرف الإنسان حق الله – عز وجل – عليه وحقَهُ وحدّهُ الذي لا يجوز له أن يتجاوزه، وحقوق الآخرين المؤلفين، المخالفين، الأتقياء، المعاندون، الكفار، المؤمنون، سلسلة من الحقوق نظمها المشرع الإسلامي ودين الله – عز وجل – فلا يجوز لأحد أن يعتدي على أحد. هذا من معالم دين الله -عز وجل- فقال -سبحانه وتعالى- {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} [المائدة: ٨].
فأن يكون الإنسان بينه وبين شخص آخر أو جماعة أخرى شنآن وبغضاء وعداوة، هذا لا يعني أنه يجوز له أن يعتدي عليهم. أو أن يخاصم أحداً منهم فيلحق الضرر بشخص آخر لأنه قريبه أو له علاقة. يقول الله عز وجل: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} [فاطر: ١٨]. فهذا الذي يرتكبه بعض المعتدين صغاراً أو كباراً أن فلاناً أضرني أنا سألحق الضرر بأبيه أو بأمه أو بزوجته أو بولده أو بأخيه أو بصديقه هذا أمر يخالف دين الله -عز وجل-.
فإذاً، الإنسان إذا أراد أن يستقيم يجب أن يعرف أو في حدود ما يعرفه من الدين ينال الخير.
ولذلك فإن الله – عز وجل – بماذا وعد رسولَهُ الكريمَ قال {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ} [الضحى: ٥]. النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان طالباً للخير وعارفاً بهذا الخير وجَدَّ وَاجْتَهَدَ في طلب هذا الخير، عن أي طريق؟
عن طريق تدينه بدين الله، فقهه في دين الله – عز وجل – وهو النفقة للناس. الله -سبحانه وتعالى – يذكر أنه علَّم آدم الأسماء، آدم هو مثال للإنسان الكامل ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو النموذج الأفضل من بين جميع البشر. أفضل من آدم، أفضل من إبراهيم، أفضل من نوح، ومن موسى، ومن عيسى، ومن جميع هؤلاء الأنبياء، فهو الأكثر تديناً وهو الأكثر فقهاً. لماذا نقول هذا؟ لأن الله -عز وجل- قَرَّرَ لنا قاعدة حيث يقول -عز وجل- {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: ٩]. فإذاً الذين هم أعلم أفضل من غير الأعلم.
فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أَجْمَعَ المسلمون على أنه الأفضل فيجب أن يكون الأعلم، يجب أن يكون الأعلم. إذا كان الأعلم، كان الأتقى، وإذا كان الأتقى يعني أنه أكثر فقهاً في دين الله – عز وجل – وهذا يعني أنه أكرم وهذا ما ينتهي إليه المسلمون من النتيجة أنه أفضل البشر. فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه يدعو الناس إلى الله -عز وجل- وإلى الخير يعطينا هذا المفتاح. المفتاح ما هو؟
الفقه في الدين لأن الإنسان كلما فَقِهَ في دينه استطاع أن يستجلب لنفسه الخير ويستدفع عن نفسه الضرر، ما يعرفه غيره وما لا يعرفه غيره.
أيضاً هناك رواية أخرى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يرويها إمامنا الكاظم -عليه أفضل الصلاة والسلام- يقول: «لا خير في العيش إلا لمستمع واعٍ أو عالمٍ ناطق» [بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ١ – الصفحة ١٦٨]. متى يكون للحياة طعم حقيقي طعم يستسيغه الإنسان السوي؟
أن يكون مستمعاً واعياً يعني طالب للاستقامة أو عالم ناطق يعني مُقوِّم للناس.
رجعنا مرة أخرى إلى الاستقامة والتقويم فالإنسان بهذين المفتاحين أن يكون له أذن ينصت بها، عين يبصر بها، قلب يفقه به، ثم إذا تكاملت شخصيته، وفي السياق أيضاً يكون ناطقا بالحق يكون معلماً للآخرين مسدداً لهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: ٧٠] {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: ٨٣] لا يستثني أحد من الناس. فالله – عز وجل – حَسنٌ في ذاته يدعو عباده إلى الحسن في القول وفي الفعل.
وهذا يعني أن يكون الناس مستقيمين من جهة، مقومين للغير من جهة على خلاف الطريق المعوج. الطريق الذي ينتهي بالإنسان إلى غير النتيجة التي كان يرجوها.
طبعاً قد تختلط حسابات الناس، هناك فئة من الناس إذا أدخلها الله عز وجل جهنم -أجارنا الله وإياكم منها ومن أهلها- كان لهم فكرهم الذي لم يستقوه من الله -سبحانه وتعالى- يقولون {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ} [ص: ٦٢] السبب ما هو؟
ما كان عندهم فقه في دين الله – عز وجل – فكانوا يصنفون الناس تصنيفات من عندياتهم من جيوبهم. فلان صالح وفلان غير صالح. ما هو ميزانكم؟! هل أخذتم هذا الميزان من عالم الغيب والشهادة؟
الجواب: كلا. يقول: لا تقحم الدين في هذه المسألة. أنا وأنت نقحم الدين أو أن الدين الله – سبحانه وتعالى – هو الذي أنزل ديناً كما قرره رسول الله وأهل بيته (عليهم أفضل الصلاة والسلام) أن له حكماً في كل شيء حتى أرش الخدش. يعني لو أن أحداً أخذ مسماراً صغيراً أو خدش شيئاً يملكه الآخرون حتى هذا المقدار له حكمه الشرعي. يأتي أحد بكل بساطة يقول لا تقحم الدين في هذه المسألة!
كيف لا تقحم الدين؟! يعني لو رجعنا إلى القرآن من أوله إلى آخره، من سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدءاً وانتهاءاً، ألا تجد أنه ينظم لنا الدخول إلى بيت الخلاء؟ أسلوب النوم؟ عند الاستيقاظ، ماذا تفعل؟ عندما تريد أن تأكل، ماذا تفعل؟ عندما تريد أن تقوم للشيء الفلاني، ماذا تفعل؟ كل هذه الآداب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بماذا تكلّم؟ عن ماذا تكلّم ؟ من أين استقى؟ {مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٣-٤].
لكن لاحظوا إخواني – حتى أختم الحديث ونكمل إن شاء الله لاحقاً – عن الموانع التي تحول بين الإنسان وبين الاستقامة. مسألة إقصاء الدين اللائق أو إقصاء دين الله – عز وجل – وآياته وسنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحياة في بعض مفاصلها ليس هذا أمر جديد، هناك أمر قديم أو سنة قديمة تسبقه حتى الإسلام.
كثيرٌ من الناس من ذاك الوقت من زمن موسى، ومن زمن عيسى، ومن زمن نوح، يريدون أن يفصلوا الدين ليجعلوه قوقعة. لتكن متدينا في المسجد، لتكن متدينا إذا كان نصرانياً في الكنيسة، ليكن متدينا إذا كان يهودياً في الكنيس، لكن أن تكون في حياتك العادية متديناً بدين الله، تسأل عن حكم الله يعتبرها نوع من أنواع التنطع! نوع من أنواع التشدد!
وليس هذا من دين الله في شيء والقارئ للقرآن الكريم يتبين له هذا.
أكبر آية أو أطول آية في القرآن الكريم، الآية التي تنظم الدَيَن، إذا تداينتم أيها الناس ماذا يجب عليكم أن تفعلوا؟ كيف تدونون؟ في التفاصيل الله -سبحانه وتعالى- دخل. هل الإرث هذا حكم ديني أو ليس كذلك؟ أليست مسألة مالية؟ ومع ذلك الله -سبحانه وتعالى- نظمها في الكتاب الكريم بالتفاصيل.
فالدين ليس أمراً يُستثنى منه قطاع من الحياة، ثم يحصر في جانب، ثم من يحصره هذا الإنسان.
لا! حتى لو أراد الإنسان أن يخسر يجب أن يستأذن الله – عز وجل -، يسأل الله – سبحانه وتعالى – فيما جاء في الكتاب الكريم والسنة المطهرة. هل هذا مستثنى من الأحكام الشرعية أو ليس مستثنى؟
إذا قال الله عز وجل أن هذا لكم أن تفعلوا فيه ما تشاؤون، ما يحلو لكم، هذا حينئذٍ لا يكون ديناً!
لكن هؤلاء الذين يقولون لا تقحم يغفلون عن أنه يزيلون أو يحولون بين الله – عز وجل – والتشريع في هذا الجانب. ثم يقحمون جهات أخرى في التشريع، الاتحادات، النقابات، المؤسسات، الأعراف، التقاليد، الدولة. الآن الدول ماذا تفعل؟ تنظم التفاصيل الأنظمة والتعاليم، والسبب ما هو؟
لأن الناس لا يستغنون عن القانون. إذا كان الناس لا يستغنون عن القانون والله -عز وجل- يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: ٣]. ثم نقول أن الله – عز وجل – لم يشرع لنا في هذا!
هذا اتهام لدين الله -عز وجل- بأنه ناقص، وحاشا لله -عز وجل- أن ينزل ديناً ناقصاً أو ينقض قوله الذي قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.
نسأل الله – عز وجل – أن يؤجرنا وإياكم في مصابنا بمولانا الإمام الكاظم -عليه أفضل الصلاة والسلام- ويجعلنا وإياكم من الشاكرين لنعمة بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، اللهم كن لوليك الحجةِ بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصرا ودليلاً وعينا، حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين واخذل الكفار والمنافقين، اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وأغن فقرائنا وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا يا كريم، وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.