مقالات

مكامن وأسباب اختلاف المسلمين

السيد حسن النمر - تعالوا إلى كلمة سواء (2 - 3)

بعد ما تقدم من منطلقات لسائل أن يقول: لم يختلف المسلمون إذاً؟ الجواب: إن توحد الناس على تلك المنطلقات لا يلغي أسباباً كثيرة للاختلاف، بعضها ذاتيٌّ، وبعضها موضوعيٌّ.

وأعني بـ (الأسباب الذاتية): القدرات الفكرية والنفسية لقارئ النص (القرآن والسنة). وأعني بـ (الأسباب الموضوعية): البنية الفكرية والنفسية لقارئ النص.

فقد يتفاوت الناس ذاتياً، إذ فيهم (العبقري، والذكي، والمتوسط، والبسيط)، وفيهم (العجول، والبطيء، والغضوب، والحليم…). وقد يتفاوتون موضوعياً، من حيث المستوى الثقافي وسعة الاطلاع ومن حيث الخبرة وشرح الصدر.

وبطبيعة الحال، فإن مقاربة هؤلاء لأي موضوع ستتفاوت، ولن تكون واحدة. وثمة سبب آخر لا يمكن غضّ الطرف عنه يتمثل في اختلاف أنماط التفكير التي تتأثر بالبيئة والثقافة والسلم والحرب والصحة والمرض…

وأي اختلاف نشأ من هذه الأسباب يمكن القول، عموماً، إنه (اختلاف مشروع). ولعل السر في ذلك أننا لو فرضنا على الناس أن يصلوا إلى نتائج متماثلة، مع اختلافهم فيما ذكر، لكان تكليفاً بما لا يطاق، وحاشا الله عز اسمه أن يفعل ذلك، لأنه ظلم، والظلم قبيح كما يدركه أي عاقل، وهو سبحانه يأمرنا بالعدل والإحسان واللطف والرحمة… فلا يعقل أن يخالف ما أمر به «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ» (الصف:3).

ومن ثَم فإن اختلاف الأستاذ وتلميذه أمر مشروع ؛ للتفاوت بينهما في المعرفة والخبرة والعمق في الإدراك… وكذلك الاختلاف بين الصغير والكبير؛ لأن الكبير عادة يتفوق على الصغير في شمولية النظرة والاحتفاظ بقدر كبير من الموضوعية قياساً بالصغير. وقس على ذلك المريض والصحيح…. فضلاً عن اختلافهما في العلم «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ» (الزمر:9).

وهذا النوع من الاختلاف يمكن أن يكون سبب رحمة، كما نجده في اختلاف الصناعات والتجارات… تبعاً لاختلاف الأذواق، وترتب على ذلك التفاوت بين الناس في مستويات المسئولية ففيهم الرئيس وفيهم المرؤوس، وفيهم التاجر والمزارع، والمنظِّر والمنفِّذ… قال تعالى: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَة رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» (الزخرف:32). غير أن ثمة أشكالاً أخرى من الاختلاف لا يتسبب فيها شيء مما ذكر، وإنما يكون السبب فيها التخلف والتفاوت في واحد من آفاق ثلاثة:

الأفق الأول: العلم والمعرفة

إن من الشروط المنطقية لرفع الاختلاف بين شخص وآخر أن يتوافر الطرفان على المعلومات والمعارف نفسها، فمتى اختلفا في طبيعة المعلومات فلن يكون مفاجئاً أن يختلفا، بل المفاجئ أن يتفقا. لذلك لابد من التكافؤ العلمي والمعرفي بين الطرفين، وإلا انعكس ذلك على أصعدة شتى، ليس أقلها شأناً التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية… لا فرق في ذلك بين الأفراد والجماعات والدول والشعوب.

ومن الضروري أيضاً التنبيه إلى أن التخصص يجب أن تحفظ له حرمته، فليس من حق الجاهل، بما يشمل غير المتخصص، أن يتطاول على العالم، المحيط بأبعاد المسألة، بالبت في أمر يجهله قبولاً أو رفضاً «فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (النحل:43). نعم، للجاهل كل الحق أن يتعلم ليتوصل بذلك إلى مناقشة العالم ومحاججته.

الأفق الثاني: القناعات الفكرية

في هذا الأفق تكمن أسباب الاختلاف بين المسلمين. وذلك أن الإيمان بمبدأ فكري له تجليات على متبنيات فكرية في مستويات أعلى. مثلاً:

1 – لو أن أحداً آمن بصفة «التجسم» في الذات الإلهية سيكون من تجليات ذلك ولوازمه الإيمان بأن لله محلاً، وهو أن يكون الله تعالى في السماء وليس في الأرض…. من دون أن يعني ذلك سلب ألوهيته على الأرض، فليس ثمة مسلم، حتى المجسمة، من يقول بذلك لاتفاق الكل على مفاد قول الله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ» (الزخرف:84).

2 – ولو أن أحداً آمن بمسألة رؤية الله (المادية) فإن لازم ذلك أن يكون الله جسماً، لأن من شروط الرؤية المادية (بالعين) أن تتوافر شروطها ومنها المكانية والتحيز… وذلك يستلزم، بحكم العقل، الجسميةَ.

ومع ذلك يقال – في علم العقائد – إن لازم المذهب ليس بمذهب. ومن ثم لا يجوز ترتيب الآثار على لوازم النظرية إلا إذا كان صاحبها ملتفتاً لتلك اللوازم ويؤمن بها. وهنا يقع كثيرون في خطأ محاكمة الآخر (المسلم) بلوازم مذهبه من دون التفات هذا الآخر إليها ولا إيمانه بها.

3 – لو أن أحداً اعتقد أن الواقع التاريخي الإسلامي في الصدر الأول وقعت فيه مخالفات شرعية لا يعني ذلك أن تلك المخالفات وقعت جميعها من باب النية السيئة والمعد لها مسبقاً. ولئلا يطول بنا الحديث نكتفي بهذا لنقول: إن تنوع القناعات وتعدد القراءات مع تسليم الجميع بالمبادئ آنفة الذكر لا تسمح لأحد أن يُخرج أحداً من الملة، إلا أن يبدر من أحد كفرٌ بواحٌ قام عليه البرهان القاطع.

ولكن ذلك لا يعني «تمييع» مسألة الخطأ والصواب، والحق والباطل. فلابد أن فريقاً من أولئك الفرقاء مصيب في كل ما يعتقد، فيكون غيره على خطأ وباطل، أو يكون لدى كل فريق خطأ وصواب، وحق وباطل. وليكن ذلك مدعاة لمزيد من التباحث العلمي بين الفرقاء ليعرض كل منهم قناعاته على الآخر بالدليل والبرهان، ولنؤمن بأن الله هاد من استهداه «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» (العنكبوت:69).

وفي الفقه، كما هو الحال في العقائد، تتعد الاجتهادات، في المبنى (الأسس العامة / الكليات والمبادئ) والبناء (الصغريات)، ويترتب على ذلك تباين في النتائج، قليلاً أو كثيراً بحسب حجم الاختلاف. قال العلامة السيد محمد تقي الحكيم في سياق حديثه عن أسباب الاختلاف إنها تنقسم: إلى قسمين:

1 – الخلاف في الأصول والمباني العامة التي يعتمدونها في استنباطهم، كالخلاف في حجية أصالة الظهور الكتابي، أو الاجماع، أو القياس، أو الاستصحاب، أو غيرها من المباني مما يقع موقع الكبرى من قياس الاستنباط.

2 – اختلافهم في مدى انطباق هذه الكبريات على صغرياتها بعد اتفاقهم على الكبرى. سواء كان منشأ الاختلاف اختلافاً في الضوابط التي تُعطَى لتشخيص الصغريات بوجهة عامة، أم ادعاء وجود قرائن خاصة لها مدخلية في التشخيص لدى بعض وإنكارها لدى آخرين؛ كأن يستفيد أحدهم من آية الوضوء مثلاً – بعد اتفاقهم على حجية الكتاب – أن التحديد فيها انما هو تحديد لطبيعة الغسل وبيان لكيفيته فيفتى تبعاً لذلك بالوضوء المنكوس، بينما يستفيد الآخرون أنه تحديد للمغسول وليس فيه أيّة دلالة على بيان كيفية الغسل، أي أنه لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة فلابد من التماس بيان الكيفية من الرجوع إلى الأدلة الأخرى كالوضوءات البيانية وغيرها «الأصول العامة للفقه المقارن ص 18-19».

وأحسب أن الاختلافات الحاصلة في هذين الأفقين (العلمي والفكري) يهون قياساً بما يتسبب فيه الأفق الثالث، وسيأتي بيانه في الحلقة المقبلة.

صحيفة الوسط البحرينية – العدد 1463 – الخميس 07 سبتمبر 2006م الموافق 13 شعبان 1427هـ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *