تم نشر هذا المقال في كتاب «القرآن كتاب حياة» من نشر «مركز أنوار القرآن» ومن إعداد أ.عبدالله حسن الهمل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق والمرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين، وبعد:
فإن بيانَ حقيقةِ أن القرآنَ الكريمَ كتابُ الحياة يتطلب الكثيرَ من الصفحات، ولا يسعنا – في هذه الأسطرِ القليلةِ – إيفاءُ الموضوعِ حقَّهُ، غير أن طلباً كريماً من معِدِّي هذا الكتابِ يُلزمنا أن نجيبهم بإيجازٍ.
ونقف على ضفافِ المسألةِ؛ لنرتشفَ بعضاً من قطراتِ غديرِها، في تمهيدٍ ومحطاتٍ ثلاثٍ:
تمهيد:
1 – القرآن هو ما بين الدفتين والذي يبدأ بالفاتحة، وينتهي بسورة الناس، والموجود في بيوت الناس، وصدور حفاظه.
2 – الحياة تقابل الموت. ومعناهما معروف.
وقد يطلقان مقصوداً بهما معناهما الماديُّ الفيزيائيُّ، وقد يطلقان ويراد بهما بعدُهما المعنويُّ على مستوى العقل والروح، ويكون لهما انعكاسٌ على معيشةِ الإنسانِ وفرداً وجماعةً؛ من حيث التقدمِ والتخلفِ.
والمرادُ في هذه المقالةِ المعنى الثاني دون الأولِ.
3 – نعني بـ(الكتاب) – هنا – الدستورَ الشاملَ لمناحي الحياةِ للفردِ والجماعةِ، بحيث تكون له الهيمنةُ على ما عداه، ويوزَن حقانيةُ كلِّ شيءٍ به، فما وافقه قُبل، وما خالفه رُد. فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) “… فما وافق كتابَ اللهِ فخذوه، وما خالف كتابَ الله فدَعُوه”([1]). وعن أيوب بن الحر، قال “سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كلُّ شيءٍ مردودٌ إلى الكتابِ والسنةِ. وكلُّ حديثٍ لا يوافق كتابَ الله فهو زخرفٌ”([2]).
المحطةُ الأولى: القرآنُ في القرآنِ
الحديثُ القرآنيُّ عن القرآنِ الكريمِ مستفيضٌ، تناول مصدرَهُ وأنه من عند اللهِ تعالى تارةً، وأخرى مضامينَهُ، وثالثةً لزومَ الإيمانِ به، ورابعةً وجوبَ العملِ به، وخامسةً الدعوةَ إليه، وسادسةً المخاطرَ التي تترتب على التهاونِ به إيماناً وتطبيقاً، وهكذا. فمثلاً نقرأ:
1 – قوله تعالى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} [الأنعام/38].
وهذا تعبيرٌ في منتهى الوضوحِ والظهورِ في الطبيعةِ الشموليةِ للمعارفِ القرآنيةِ. وهذا يفرض – بالضرورةِ – أنه بيَّن حقيقةَ الحياةِ وسائرَ ما يتعلق بها.
2 – قوله تعالى {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة/15، 16].
وهاتان الآيتان الكريمتان واضحتا الدلالةِ في تحديدِ المضمونِ القرآنيِّ، ووظيفتِهِ البيانيةِ، وما يترتب على اعتمادِهِ منهجاً سلوكيّاً؛ من هدايةٍ نظريةٍ وعمليةٍ، ومن خروجٍ من الظلماتِ كلِّها إلى النورِ كلِّهِ.
3 – قوله تعالى {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [البقرة/99].
وهذا يبيِّن حالَ المنحرفين عن القرآن، والمتنكِّرين له، وأنهم (فاسقون)؛ أي: خارجون عن الصراطِ المستقيمِ، وذلك أن القرآنَ ليس سوى آياتٍ بيناتٍ؛ أي: دلائلَ واضحاتٍ، على الواقعِ والوقائعِ.
4 – قوله تعالى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون} [البقرة/121].
وهذا بيانٌ لِما يجب ويليق بالناسِ أن يكونوا عليه؛ في ما يتعلَّق بوظيفتِهِم تجاه القرآنِ، وأنه الفهمُ أولاً، والارتباطُ المضمونيُّ والشكليُّ ثانياً، والتبنِّي الوجدانيُّ ثالثاً.
فمن نأى بنفسه عن ذلك فهو من الخاسرين.
5 – قوله سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة/174 – 176].
وهذا يعني أن على المؤمنين بالقرآنِ أن لا يكونوا أنانيين في إيمانِهم هذا، بل أن يكونوا دعاةً للخيرِ، وبناةً للحياةِ، من خلال التعريفِ بالقرآنِ ابتداءً؛ لمن يُرجى فيه طلبُ الحياةِ، واستجابةً لِمن يسعى إليها.
أما مَن ينكص عن هذه المهمةِ، ويكتمُ سببَ الحياةِ هذا؛ رجاءَ متاعٍ قليلٍ، وطلباً لنعيمٍ زائلٍ، فإنه يخرج من دائرةِ الأحياءِ؛ بالحياةِ الحقيقيةِ، إلى دائرةِ الموتى؛ بضلالِهِم، حيث لا يستحقون الرعايةَ من الله تعالى؛ فضلاً عن إعلاءِ شأنِهِم، بل سيكونون في معرضِ السخطِ الإلهيِّ.
ولا غرابةَ في التعجبِ من سوءِ حالِ هؤلاء الناكِصِين، بعد أن استبدلوا الحقَّ بالباطلِ، واختاروا الضلالَ على الهدى، غافلين عن أنهم سيكونون – ومَن يشاكلهم – في منتهى البعدِ عن دائرةِ الحياةِ المنشودةِ.
6 – قوله عز اسمه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون} [يونس/57، 58].
وهذا بيانٌ جليٌّ للوظيفةِ القرآنيةِ، وأنها (علاجية) تقي المتعظَ من الأمراضِ قبل ابتلائِهِ بها، وتشفيَه منها إن هي أصابَتْه ولوَّثته.
وهذا هو الفضلُ الإلهيُّ، والرحمةُ الربانيةُ، اللذان يجدر الفرحُ بهما، وليس ما يزاحمهما؛ من صنوفِ المتاعِ الدنيويِّ القليلِ الزائلِ؛ وإن بدا كبيراً وكثيراً.
7 – قوله تعالى {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الأنعام/155 – 157].
والآياتُ واضحةُ الدلالةِ في :
- بيانِ ربانيةِ القرآنِ، وما يشتمل عليه من البركةِ والخيرِ والبيانِ والهدى والرحمةِ. وهذه هي الحياةُ وآثارُها، وأن اللازمَ هو اتباعُهُ رجاءَ نيلِ الرحمةِ من اللهِ تعالى.
- رفضِ التعلُّل والتذرُّعُ – بالغفلةِ – عن القرآنِ والوحيِ الإلهيِّ، أو ما يماثل الغفلةَ في الطبيعةِ والأثرِ.
- التحذيرِ من العاقبةِ الوخيمةِ لِمن يصدف، ويعمى، وينحرف، عن القرآنِ.
المحطةُ الثانيةُ: القرآنُ والإنسانُ
كما أفاض القرآنُ في الحديثِ عن نفسِهِ، فقد أفاض في الحديثِ عن الإنسانِ، وذلك أن القرآنَ إذا كان هو (الخطاب) فإن الإنسانَ هو (المخاطَب)، أما (المخاطِب) فهو الله تعالى.
وأما مناحي هذا الحديثِ فقد تشعَّبت على مساحاتٍ وأوديةٍ.
فهو تارةً يتحدث عن خلقةِ الإنسانِ من قِبل الله تعالى، وأخرى عن استخلافِهِ وتحمُّلِهِ للأمانةِ، وثالثةً عن نواحي القوةِ والضعفِ فيه، ورابعةً عن عواملِ هدايتِهِ وضلالِهِ، وخامسةً عن عاقبتِهِ ومصيرِهِ، وسادسةً عن حياتِهِ وموتِهِ، وهكذا.
ومثالاً على ذلك نقرأ:
1 – قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج/5].
والآيةُ الكريمةُ تدعو الناسَ إلى الإيمانِ بأن اللهَ سيبعثهم لا محالةَ؛ ليحاسب المحسنَ على إحسانِهِ، والمسيءَ على إساءتِهِ، وأن مَن أراد تصديقَ ذلك وبرهانَهُ فليرجع إلى مبدءِ خلقتِهِ، وسيرى بما لا لبسَ فيه أن اللهَ هو الذي خلقه، وأنه تعالى هو الذي حفظه ومدَّ في عمره – إن قُدِّر له ذلك -، وأن حالَه في ذلك حالُ الأرضِ والنباتِ عليها، وحكمُ الأمثالِ في ما يجوز وما لا يجوز واحدٌ.
2 – قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة/30].
وهذا بيانٌ للمشيئةِ الإلهيةِ التي تعلَّقت بخلقِ الإنسانِ واستخلافِهِ، وأن اللائقَ بالمخلوقِ إنما هو التسبيحُ والتحميدُ له تعالى، وليس الإفسادَ والعدوانَ بسفكِ الدماءِ.
3 – قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} [الذاريات/56].
وهذا بيانٌ للغايةِ من خلقِ الإنسانِ، والجنِّ، وأنها العبادةُ للهِ تعالى؛ انسجاماً وتناغماً مع ما تقتضيه الخالقيةُ في اللهِ تعالى، والمخلوقيةُ في العبدِ.
ومن العبودية لله تعالى الانصياع لأحكامه. قال تعالى {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلهِ} [الأنعام/57]، وقال تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَام} [آل عمران/19].
4 – قوله تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} [الأنعام/122].
والآيةُ الكريمةُ واضحةُ الدلالةِ في أن الناسَ صنفان: أحياءٌ، وأمواتٌ.
أما الأحياءُ فهم: المؤمنون باللهِ، المصدِّقون بما جاء من عنده، المسلِّمون بأوامرِهِ، المنتهُون عن نواهِيهِ، فهؤلاء هم الممْنون عليهم بالنورِ من عنده، فهم يسيرون في ضوءِ هذا النورِ، ويُنظِّمون شؤونَهم كلَّها على ضوءِ هذا النورِ.
وأما الأمواتُ فهم: الكافرون باللهِ تعالى، في وجودِهِ، وتوحيدِهِ، وأوامرِهِ، ونواهِيهِ، الظالمون لأنبيائِهِ وأوليائِهِ، أو المبتلَون بالكفرِ والظلمِ لشيءٍ من ذلك.
ومن هنا نقول:
لا ريبَ في أن القرآنَ كتابٌ للحياة، وليس أيَّ حياةٍ بل خصوصَ الطيبةِ دون الخبيثةِ. ويصدِّق ذلك قوله تعالى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} [النحل/97].
وبطبيعة الحال، فإن لذلك شروطاً يلزم مراعاتُها، أجمَلَها قولُهُ تعالى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل/98 – 100].
فالابتعادُ عن الشيطانِ؛ باللجوءِ إلى اللهِ تعالى، هو الطريقُ إلى ذلك. ثم إن هذا الشيطانَ – الذي يوحي للناسِ أنه لا يُقهر – ليس له سلطانٌ وهيمنةٌ إلّا على من استسلم له، وضعُف أمامه، أما الذين يلجؤون إلى اللهِ، ويتوكلون عليه، ويستقوون به سبحانه فهم الأقوياءُ والأحياءُ.
المحطةُ الثالثةُ: من ملامحِ الحياةِ الإنسانيةِ في القرآنِ
لا يسعنا، وقد بُنيت المقالةُ على الاختصارِ والإيجازِ، أن نستوعب الحديثَ عن ملامحِ الحياةِ الإنسانيةِ، كما يصورها لنا القرآنُ الكريمُ، غيرَ أنَّا نورد ثلاثةَ نماذجَ من تلكم الملامحِ.
الملمحُ الأولُ: الإيمانُ والعملُ الصالحُ
لكي يكون الإنسانُ حيّاً – في مشروعِ القرآنِ – فلا بدَّ له أن يكون مؤمناً باللهِ تعالى بكلِّ ما ينتظم تحت ذلك من تفاصيلَ، وعاملاً للصالحاتِ بمفهومِها الشاملِ.
قال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [هود/23، 24].
الملمحُ الثاني: روحُ التعبدِ للهِ تعالى، والخشوعُ بين يديه
لا يحيى الإنسانُ – وفقاً للمشروعِ القرآنيِّ – إلا بأن يكون له علاقةٌ خاصةٌ باللهِ تعالى، يعبِّر عنها بالوقوفِ بين يديه سبحانه في عتمةِ الليلِ، بعيداً عن أعينِ الناسِ، مناجياً ربَّه راغباً في ثوابِهِ، خائفاً من عقابِهِ. يدفعه إلى ذلك: عرفانُهُ بربِّهِ الغنيِّ، ومعرفتُهُ بمخلوقاتِهِ الفقيرةِ.
قال تعالى {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر/9، 10].
الملمحُ الثالثُ: العلمُ والفقهُ
لكي يكون الإنسانُ حيّاً – في المنظورِ القرآنيِّ – فلا بدَّ له من أن يكون من أهلِ العلمِ والفقهِ.
قال تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر/27، 28].
الملمحُ الرابعُ: الجهادُ في سبيلِ اللهِ
لكي يحيا الإنسانُ – قرآنيّاً – فإنه يمحو قاموسَ الكسلِ من واقعِهِ، فهو لا يعرف الكللَ ولا المللَ، وإنما تعمر حياتُهُ بالجهادِ والكفاحِ – بمعناه الشاملِ – على قاعدةِ العملِ للهِ والرجاءِ بما عنده.
قال تعالى {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء/95، 96].
المحطةُ الرابعةُ: القرآنُ والعترةُ
لا يرتاب القارئُ للفكرِ الإسلاميِّ الأصيلِ في أن للعترةِ النبويةِ الطاهرةِ مكانةً خاصةً على مستوى إمامةِ الأمةِ، في جميعِ مناحي الحياةِ، وبالخصوصِ في المجالِ العلميِّ والمعرفيِّ.
وقد جاء في الخبرِ أن رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال – في آخرِ خطبتِهِ يومَ قبَضَه اللهُ عز وجل إليه – “إني قد تركتُ فيكم أمرَين، لن تضلُّوا بعدي ما إن تمسكتم بهما: كتابَ اللهِ، وعترتي أهل بيتي. فإن اللطيفَ الخبيرَ قد عهِد إليَّ أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوضَ كهاتين، وجمع بين مسبِّحتيه، ولا أقول كهاتين، وجمع بين المسبِّحة والوسطى، فتسبق إحداهما الأخرى. فتمسَّكوا بهما لا تزلُّوا، ولا تضِلوا، ولا تقدَّموهم فتضلُّوا”([3]).
وهذا المضمونُ مرويٌّ – مستفيضاً – عند جميعِ المسلمين، وعليه فلا مجالَ للتشكيكِ فيه، ولا في لزومِ العملِ به([4])، وإن لم يلتزم بذلك الأكثر {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين} [يوسف/ 103].
فكتابُ الحياةِ هذا، أعني القرآنَ الكريمَ، له عدلٌ لا يفارقه، وهم الراسخون في العلمِ، الذين يعلمون – من دون الناس – تأويله، {.. وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ..} [آل عمران/ 7]، ولو لم يكونوا كذلك لبانوا عنه وفارقوه، وهذا منفيٌّ بنصِّ النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
فالقرآنُ الذي فيه تفصيلُ كلِّ شيءٍ، والذي هو بيانٌ لكلِّ شيءٍ، لكي يُفهم وتُدرك مضامينُهُ لا بدَّ فيه من الرجوعِ إلى أهلِ البيتِ (عليهم السلام).
فإذا عُدنا إلى تراثِ العترةِ الطاهرةِ من أهلِ بيتِ النبوةِ لاستكشافِ ما للقرآنِ الكريمِ من منزلةٍ ومكانةٍ في هذا التراثِ من جهةٍ، والتعرفِ على أن الحياةَ الإنسانيةَ لا تستغني عن القرآنِ من جهةٍ أخرى، فسنجد مقولاتٍ كثيرةً مرويةً عنهم في ذلك.
منها: مقولةً للإمامِ علي بن أبي طالب (عليه السلام) جاء فيها “وفي القرآنِ نبأُ ما قبلَكم، وخبرُ ما بعدكم، وحكمُ ما بينِكم”([5]).
ودلالتُها على شموليةِ المضامينِ القرآنيةِ، واستيعابِها للتاريخِ والواقعِ والمستقبلِ الإنسانيِّ لا تخفى.
وهذا يعني – بالضرورةِ – أن مَن أراد أن يعرف الحياةَ بحلوِها ومُرِّها، وأن يحيى كما يحب ويجب أن يحيى، فلا مناصَ له من الرجوعِ إلى القرآنِ؛ فإن فيه بيانَ ذلك كلِّهِ.
ومنها: ما روي عن سيدةِ نساءِ العالمين فاطمةَ الزهراءِ (عليها السلام)، من قولِها في القرآنِ الكريمِ “لله فيكم عهدٌ قدَّمه إليكم، وبقيةٌ استخلفها عليكم؛ كتابُ الله بينةٌ بصائرُهُ، وآيٌ منكشفةٌ سرائرُهُ، وبرهانٌ متجليةٌ ظواهرُهُ، مديمٌ للبرية استماعُهُ، وقائدٌ إلى الرضوان اتباعُهُ([6])، مؤدياً إلى النجاة أشياعَهُ. فيه تبيان حجج الله المنوَّرة([7])، ومحارمُهُ المحدودةُ، وفضائلُهُ المندوبةُ، وجُملُهُ الكافيةُ، ورخصُهُ الموهوبةُ، وشرائعُهُ المكتوبةُ، وبيناته الخاليةُ([8])“([9]).
فالقرآنُ إذن، وكما تراه الزهراءُ (عليه السلام) بحقٍّ، هو كتابٌ للحياةِ الحقيقيةِ التي ينشدها الإنسانُ العاقلُ.
ومنها: ما يصلح جواباً لشبهةٍ مفادها : أن القرآنَ الكريمَ قد يكون كتاباً للحياة في زمنٍ مضى، ولأقوامٍ ماتوا، أما اليومَ وقد تقدمت البشريةُ، وتفجرت العلومُ والمعارفُ، وتدفقت المعلوماتُ، فلم نعد بحاجةٍ إلى القرآنِ!
ودفعاً لهذه الشبهة فقد جاء في الخبر أن رجلاً سأل الإمامَ جعفرَ بن محمدٍ الصادقَ (عليه السلام)، فقال “ما بالُ القرآنِ لا يزداد عند النشرِ والدراسةِ إلا غضاضةً؟!”. فأجابه الإمامُ (عليه السلام) بقوله “لأن اللهَ لم ينزله لزمانٍ دون زمانٍ، ولا لناسٍ دون ناسٍ، فهو في كلِّ زمانٍ جديدٌ، وعند كلِّ قومٍ غضٌّ إلى يومِ القيامةِ”([10]). وقال (عليه السلام) “ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا و له أصلٌ في كتابِ اللهِ عز وجل ولكن لا تبلغه عقولُ الرجالِ”([11]).
وأخيراً:
فإن هذه المقالةَ لم تُبنَ لتفصيلِ موضوعِها، فهو طويلُ الذيلِ، مترامي الأطرافِ، وإنما كان غرضُنا منها التعريفَ بعنوانها، والوقوفَ على بعضِ ما يتعلَّق به، علَّها تكون منطلقاً لقرائِها أن يكملوا المشوارَ، واللهُ الموفقُ والهادي إلى سواءِ السبيلِ.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الهداة الميامين
([1]) أصول الكافي، كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب، الحديث 1.
([2]) المصدر السابق، الحديث 3.
([3]) أصول الكافي، كتاب الإيمان والكفر، باب أدنى ما يكون به العبدُ مؤمناً أو كافراً أو ضالّاً، الحديث 1.
([4]) جاء في مسند ابن أبي شيبة، ج 1، ص 108، عن طريف زيد بن ثابت أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال “إني تركتُ فيكم الخليفتَين كاملتَين: كتابَ اللهِ، وعترتي، وإنهما لن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوضَ”.
وجاء في فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل، ج 2، ص 585، عن أبي سعيد الخدري، قال “قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه [وآله] وسلم): إني قد تركتُ فيكم ما إن أخذتُم به لن تضلوا بعدي: الثِّقلَين، واحدٌ منهما أكبرُ من الآخرَ، كتابُ اللهِ، حبلٌ ممدودٌ من السماءِ إلى الأرضِ، وعترتي أهلَ بيتي. ألا وإنهما لن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوضَ”.
وجاء في مسند البزار، ج 10، ص 232، عن زيد بن أرقم، أن النبيَّ (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قال “إني تاركٌ فيكم الثِّقلَين: كتابَ اللهِ، وأهلَ بيتي. وإنهما لن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوضَ”.
وجاء في شرح مشكل الآثار للطحاوي، ج 5، ص 18 – 19، عن زيد بن أرقم قال “لَما رجع رسولُ الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم), عن حجة الوداع ونزل بغدير خم أمر بدوحات فقممن, ثم قال: ” كأني دعيتُ فأجبتُ, إني قد تركت فيكم الثِّقلين, أحدُهما أكبرُ من الآخرَ: كتابَ اللهِ عز وجل، وعترتي أهلَ بيتي. فانظروا كيف تخلفوني فيهما, فإنهما لن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوض”. ثم قال: ” إن اللهَ عز وجل مولاي, وأنا وليُّ كلِّ مؤمنٍ” ثم أخذ بيد علي رضي الله عنه فقال: “من كنتُ وليَّهُ فهذا وليُّهُ, اللهم والِ مَن والاه, وعادِ مَن عاداه”. فقلتُ [والقائل أبو الطفيل] لزيد: سمعتَهُ من رسولِ اللهِ صلى الله عليه [وآله] وسلم؟ فقال: ما كان في الدوحات أحدٌ إلا رآه بعينيه, وسمعه بأذنيه”.
قال أبو جعفر [الطحاوي]: فهذا الحديثُ صحيحُ الإسنادِ, لا طعنَ لأحدٍ في أحدٍ من رواتِهِ”.
وقال السيد عبدالحسين شرف الدين “والصحاحُ الحاكمةُ بوجوبِ التمسكِ بالثِّقلَين متواترةٌ، وطرُقُها عن بضعٍ وعشرين صحابيّاً متضافرةٌ” [المراجعات، ص 70، ط المجمع العالمي لأهل البيت، المراجعة 8].
([5]) نهج البلاغة، [ت صبحي الصالح]، الحكمة 321.
([6]) يمكن أن تقرأ “قائدٌ إلى الرضوان أتباعَه”.
([7]) يمكن أن تقرأ باسم المفعول كما أثبتناه في المتن، فيكون معناها أن حجج الله تعالى نيرة في ذاتها، وباسم الفاعل “المنوِّرة” فيكون معناها أن هذه الحجج سبب في تنوير الناس.
([8]) أي الخالية من الخطأ والاشتباه. وفي بعض النسخ “الجالية”، بمعنى أنها تجلُو من العمى، وتوضِّح من الغموض.
([9]) من لا يحضره الفقيه، ج 3، ص 567 – 568، برقم (4940).
([10]) عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج 2، ص 87، باب في ذكر ما جاء عن الرضا (ع) من العلل.
وروي نحوه عن الإمام علي الهادي (عليه السلام)، كما في الأمالي للطوسي، ص 580، المجلس 24، الحديث 8.
([11]) أصول الكافي، كتاب العلم، باب الرد إلى الكتاب والسنة …، الحديث 6.