نستقبل خلال أقل من شهر موسم (الحج)، الذي يتقاطر فيه إلى مكة المكرمة ما يزيد على مليوني مسلم لأداء فريضة تُصنَّف ضمن الفرائض الأساسية في الإسلام. وخلف هذا العدد مليار ونصف مليار من المسلمين تشرئب أعناقهم إلى تلك البقعة المقدسة تشوّقاً للوصول إليها، وأملاً أن يخرج الحجاج، وهم من خلفهم، بأكبر قدر من المكتسبات المعنوية في الدرجة الأولى، بما ينعكس إيجابيّاً على أوضاع المسلمين التي تعاني الكثير من الصعوبات، والتي من شأن اجتماع المسلمين، بنخبهم، في موسم بهذا الحجم والأهمية، أن يسهم في معالجتها.
وقد تدرس هذه الفريضة من عدة زوايا:
الأولى: (فقهية) يعالجها الفقيه محدِّداً الشروطَ اللازم توافرها ليخاطب هذا المكلف أو ذاك بوجوب الحج، انطلاقاً من قوله تعالى: «وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ» (آل عمران:97).
الثانية: (تربوية)، يعالجها الأخلاقي والعارف، مبيِّناً الثمراتِ والفوائدَ التي يجنيها الحاج من حجه، ومحدِّداً قبل ذلك الشروطَ والمستلزماتِ الروحيةَ التي يجب عليه أن يتوفّر عليها لجني تلك الثمار. وهو البحث الذي يطلق عليه (أسرار الحج).
الثالثة: نهضوية، يعالجها النهضويون، من نواحٍ عدة: اقتصادية، اجتماعية، سياسية، ثقافية وفكرية، ونفسية.
وبطبيعة الحال فإن لكل زاوية، من الزوايا الثلاث، منهجها وأدواتها التي قد تلتقي مع بعض ما هو سائد في الزاويتين الأخريين من مناهج وأدوات، وقد تختلف. وسنقتصر في إطلالتنا المتواضعة هذه على الزاوية الثالثة.
ووفاءً لأصحاب المعروف أذكِّر القارئ الكريم بمحاولة رائدة في هذا المجال لأحد رجالات النهضة، أعني الشيخ عبد الرحمن الكواكبي في كتابه (أم القرى) الذي بناه على أساس مؤتمر متخيَّل بين عدد من أبناء الأمة، من انتماءات مذهبية وفكرية ومناطقية مختلفة، تناولوا مشكلات الأمة إبان حكم الدولة العثمانية، في أخريات أيامها إذ خارت قواها ونخرها الفساد في مختلف جوانب الحكم فيها، ما انعكس تخلّفاً ضرب بجرانه في أوساط الأمة، أدى بها إلى الترنح أمام ضربات الاستعمار…
***
قال الله تعالى: «جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ» (المائدة:97). وهو فيما يبدو تحديدٌ للإطار العام الذي بُنيت على أساسه الكعبة، التي هي قلب البيت الحرام، وهي مركز نسك الحج. فالآية ترسم المسار الذي يجب أن نتعامل مع الكعبة على أساسه، وهو (القيام)، الذي هو تعبير آخر عن (النهضة). والكعبة هنا، تقوم بدور شبيه بدور المال، على اختلاف بينهما في القيمة والمنزلة والحدود. فقد قال تعالى: «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً» (النساء:5). فكلاهما يؤديان دوراً هامّاً في (القيام/ النهوض)، فكما أننا لا نستطيع إنجاز فعل النهضة من دون تقوية الاقتصاد/ المال، فإننا لن نستطيع ذلك من دون أن يكون لدينا (المحور/ الكعبة) الذي عليه نجتمع، ومنه نستلهم الروح التي يجب أن تحتل فينا المشاعر والأفئدة والعقول، وتنبعث منها الجوارح نحو الفعل.
فهل يا ترى احتلت الكعبة، عبر تاريخ حج الأمة إليها، هذا الدور؟
الجواب: بكل أسى وأسف، لا نجد ذلك قد تحقق إلا في فترات محدودة، وبمستويات متواضعة، لأن هذا الموسم العظيم لم يحسن أهله التعامل معه، فقد فُرِّغ من محتواه، فأصبح طقساً يقوم به الحجاج في عمومهم، إلا من عصم الله ورحم.
ولو عُدنا إلى القرآن لوجدنا نصّاً يقول «فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً. وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ» (آل عمران:97) وهو يشرح المبررات التي شكلت القاعدة والأرضية للحكم بإيجاب الحج، وهي: أن في هذا البيت دلائل تشد الإنسان إلى جدنا إبراهيم (ع) بطل الحرية والانعتاق عن كل ما من شأنه شد الإنسان إلى قيم التخلف (أصنام الحجارة والذات والمجتمع)، وعلامات تهديه إلى قيم التوحيد والعبودية لله وحده، التي تنتهي به إلى واحة الأمان والاطمئنان «أَلا بذِكْر اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الرعد:28).
ولأن الله رحيمٌ بعباده لطيفٌ بهم فقد قصَر الإيجابَ والإلزامَ على «من استطاع». والمستطيعون هم النخب المتميزة في المجتمعات، ممن سعوا بجد في الحياة وعملوا على تطوير أنفسهم بالمستوى الذي أصبحوا معه مقتدرين ماديّاً، وهو أهم معاني الاستطاعة. وإنما يتيسر لهم ذلك لأنهم قد توفّروا على أسباب النجاح في إدارة الحياة، فهم بين عالِم وخبير وتاجر وموظف وطبيب …، وباختصار فإنهم (نخبة الأمة).
وإذا جمعنا هذه النخب في صعيد واحد تلبية لنداء الله الذي دعاهم قبل هذا وبعده بنداء الأمانة والمسئولية والتكليف، في قوله تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً» (الأحزاب:72). والذين يتردد بين أضلاعهم قول النبي (ص): «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته» وقوله الآخر: «من غشنا فليس منا» وقوله الآخر: «إن الله يحب إذا عمل العبد عملاً أن يتقنه (أو يحسنه)».
إذا جمعناهم، على هذه الحال، فسيتحول موسم الحج، من حيث يريدون ومن حيث لا يريدون، إلى موسم (نهوض) وأداة (نهوض)، يتدارسون فيه سبل معالجة الأزمات التي تعصف بالأمة، مروراً بتشخيص الأمراض، وابتداءً بتأكيد هم الانتماء إلى الأمة. ولن يفرطوا في هذا الموسم الذي وفد إليه أهله بغير ترتيب مباشر منهم، ولا يتحمل أحدٌ تكاليف أحدٍ، ولا يوجه أحدٌ منهم أحداً… وإنما هو (التسيير الذاتي)، الذي هو تعبير عن القناعات المستقرة في النفس دون إكراه من أحدٍ.
وموسم الحج هو ضخ من مجتمعات المسلمين في أقطار الدنيا وزواياها الأربع لخيرة أبنائها، وبه يتيسر لنا، كمعنيين بـ (نهوض الأمة)، الاتصال بهذه النخب، على المستويين الرسمي والشعبي، وتدارس شئون العالم الإسلامي ومشكلاته وقدراته وثرواته… واقتراح الحلول التي تتحول به الأمة إلى أمة حقيقية يجمعها الفكر الواحد والحل الواحد، وإن في حدود المبادئ العامة.
ولي أن أتساءل: كم من علماء الدين يحجون في كل عام؟ وكم من الأطباء يحجون في كل عام؟ وكم من المهندسين في مختلف التخصصات في كل عام؟ وكم من الكتّاب في مختلف العلوم والفنون يحجون في كل عام؟ وكم من الكفاءات والخبرات تتكدس في كل عام؟
ومن شأن تفعيل حضور الآلاف من هؤلاء وأولئك أن يُصار إلى تدوين العشرات أو المئات من المشروعات التي لوحظ في تدوينها الأزمات والمشكلات من أكثر من زاوية، ومن عدة تخصصات، ومن مختلف المشارب والمدارس…
فهل يعقل أن يمر هذا الموسم من دون أن يستثمر الاستثمار المناسب؟ ومسئولية مَن السعيُ إلى إنجاز ذلك؟ وما هي العوائق التي تحول دونه؟ وما هي المقدمات التي لا بد من توفيرها للوصول إليه؟
وكثير من الأسئلة في هذا الاتجاه.
***
المسئولية في تقديري تقع، في الدرجة الأولى، على عاتق القائمين على إدارة موسم الحج الذين يلزمهم حسن التقدير لهذا الموسم، الذي يفوق في قيمته وآثاره، مواسم الرياضة التي يبذل منظموها جهوداً جبارة في التحضير لها ما يستلزم سنين عدة. ولا يكفي أن يقال إن لدينا الخبرة المتراكمة عبر سنين طويلة، لأن واقع الحال لا يدل على ذلك من قريب ولا من بعيد، على الأقل من الزاوية النهضوية التي هي الهدف من هذا المقال.
ولكني أشير إلى شرط، أو شروط، لا بد من توافرها للقيام بذلك، تتلخص في أن موسم الحج بحاجة إلى الاستعانة بخبرات:
1 – على درجة عالية من التأهيل.
2 – وعلى درجة عالية من النزاهة.
3 – وعلى درجة عالية من الشعور بالانتماء للأمة وهمومها.
وكل ذلك يتطلب توافر شروط، منها:
1 – الانعتاق من أسر المذهبية والأحادية.
2 – التحرر من الشعور بالأفضلية والتميز.
3 – اعتماد عقلية منفتحة على أفضل الأساليب في العمل المشترك.
وتقع، في الدرجة الثانية، على النخب نفسها، التي يلزمها ألا تقع في براثن التسليم بالموروث من أساليب، قد تكون نافعة لمن سبق، لكنها لا تلبي حاجة أمثالنا من أجيال تختلف في ظروفها وأزماتها عن أجيال الآباء والأجداد. ويلزمها إلى ذلك أن تتحسس آلام الأمة، وتستشعر آمالها، وتستثمر الفرص التي تمر مر السحاب، وموسم الحج واحد منها، وإن كان بفضل من الله تعالى من الفرص التي تتكرر.
مقترحات لتفعيل موسم الحج:
كنت أتمنى أن تتحول مكة المكرمة ميداناً من ميادين الوحدة الإسلامية، التي أصابها شيءٌ كثيرٌ من التصدع، نتيجة ما يقوم به بعض المسلمين من التفرقة والتمزيق والتنظير له، هنا وهناك، حتى في موسم الحج نفسه.
وأقترح هنا بعض المقترحات، والتي قد يكون سبقني إلى طرح بعضها على الملأ بعض الحريصين على المصلحة الإسلامية العامة. وهي كالآتي:
1 – إنشاء أكبر مكتبة عامة في العالم الإسلامي، على الأقل، على أن تحتوي جميع المصادر الإسلامية الأساسية والثانوية، ومن مختلف المذاهب الإسلامية. ولا يستثنى من ذلك كتاب يطلبه أي باحث في أي علم إسلامي، لتتحول مكة إلى نقطة استقطاب حقيقية للباحثين والعلماء.
2 – إقامة معرض كتاب دائم في مكة يتاح لكل ناشر من مختلف أنحاء العالم الإسلامي أن يسوق نتاجه على الجميع. بحيث تكون مكة قبلة المثقفين، كما هي قبلة المصلين.
3 – إتاحة الفرصة لإلقاء الدروس الإسلامية من قبل علماء المذاهب الإسلامية التي أقرتها القمة الإسلامية في مكة. ونمارس ما نقوله فعلاً، ونزيل صورة التناقض بين أقوالنا وأفعالنا. وليتعرف كل طرف على أفكار الطرف الآخر من لسانه.
4 – إتاحة الفرصة لإقامة مؤتمرات شعبية من قبل مختلف أهل الاختصاصات. والذي لو تم لحوّلنا موسم الحج إلى ورشة عمل حقيقية تنتج لأمتنا الكثير والكثير مما ينقصنا.
5 – العمل على إقامة سوق إسلامية في مكة المكرمة يجلب إليها كل منتج إسلامي. على أن تكون هذه السوق، كمعرض الكتاب، دائماً. لتتحول مكة من خلاله إلى أكبر معرض اقتصادي طوال العام، وليكون هذا المعرض نقطة الاستقطاب الأولى لأي تاجر ولأية شركة على مستوى العالم.
***
أحسب أن تنفيذ هذه الاقتراحات يحوِّل موسم الحج إلى مجال خصب لتلاقح الأفكار وتلاقي التجارب وتلاحم الصفوف بين مختلف المسلمين عبر الصورة الإسلامية العامة والمشتركة التي سيحكيها كل حاج إذا رجع على قومه. وصدق الله تعالى إذ يقول عن الحج: «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ» (الحج:28).
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 1561 – الخميس 14 ديسمبر 2006م الموافق 23 ذي القعدة 1427هـ