حديث الجمعة

«دور المثابرة في صناعة الإنسان» يوم الجمعة 30 رمضان 1444 هـ

نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «دور المثابرة في صناعة الإنسان» يوم الجمعة 30 رمضان 1444 هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.

بسم اللهِ الرحمنِ الرحيمِ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدِ الخلقِ وأشرف الأنبياءِ والمرسلين محمدٍ بنِ عبدِ اللهِ وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.

اللهم اجعل أعمالَنا خالصةً لوجهِك الكريمِ.

***

عبادَ اللهِ! أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ؛ فإن التقوى هي ما يصنع الإنسانَ الإنسانَ، فتجعلَهُ من المحسنين، الموعودين بما جاء من نعيمٍ، في قولِهِ تعالى ﴿إِنَّ ‌الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [المرسلات: 41-44].

وإن من تجلياتِ التقوى والإحسانِ أن يصابرَ الإنسانُ ويرابطَ ويداومَ على الخيرِ، فقد قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200]، والجامعُ بين الصبرِ والمصابرةِ والمرابطةِ مع تعددِ معانيها الدقيقةِ هو المثابرةُ والمداومةُ.

فهذه الآيةُ تخاطب الذين آمنوا، وتأمرهم بتقوى اللهِ، بمعنى أن لا يخالفوا له أمراً ولا نهياً، إذا ما أرادوا لأنفسِهم الفلاحَ، والنعيمَ الأبديَّ.

وإن لزومَ الصبرِ والمصابرةِ والمرابطةِ بمعنى المثابرةِ على تقوى اللهِ لا يخفى على كلِّ مَن تدين بدينِ اللهِ، وحرص على التمسكِ بعروتِهِ الوثقى، فإنه لا يكفي أن يطيعَ الإنسانُ ربَّهُ عزَّ وجلَّ في يومٍ ويعصيه بعده، ولا أن يطيعَهُ في شهرٍ ويعصيه بعده، ولا في سنةٍ ويعصيه بعدها.

وقد حُفَّت الجنةُ أيها الأعزاءُ بالمكارهِ، والنارُ بالشهواتِ، حتى روي أن مما يعاني منه القابضُ على دينِهِ أنه يكونَ في بعضِ الأزمنةِ كالقابضِ على جمرةٍ!

فلا بد لِمن أرادَ من الناسِ أن يكونَ إنساناً بحقٍّ أن يثابرَ، بل يجتهدَ ويجاهدَ، على ما يجعله من المحسنين المتقين ما دام حيّاً. وهذا ما نقرأه في قولِهِ تعالى {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].

وقد روى الشيخُ الكلينيُّ، بسندِهِ، عن السكوني، عن أبي عبد الله الصادقِ (عليه السلام) قال قال رسولُ الله ِ (صلى الله عليه وآله): ما أقبحَ الفقرَ بعد الغنى، وأقبحَ الخطيئةَ بعد المسكنةِ، وأقبحُ من ذلك العابدُ للهِ ثم يدع عبادتَهُ.

وما دمنا في آخرِ يومٍ من أيامِ شهرِ رمضان فإن من المهمِّ أن نتذكرَ أن من اللازمِ اهتداءً بما جاء في النصوصِ السابقةِ وغيرِها أن يحافظَ الصائمُ بعد هذا الشهرِ على ما أنعم اللهُ تعالى به عليه من هدى وصلاحٍ، فقد حظينا جميعاً بأن وفقنا اللهُ عزَّ وجلَّ وإياكم على صنوفٍ من الطاعةِ، تمثلت :

أولاً: في الصيامِ الواجبِ

فكففنا فيه عن أمورٍ يحسب كثيرٌ من الناسِ، ويظنون، أنهم أشبهُ بالعاجزين عن التخلي عنها، وببركةِ شهرِ رمضانَ وتكليفِنا بصيامِهِ تبين لهم أن لدينا مخزوناً من الإرادةِ والعزيمةِ يُبدَّد به ذاك الحسبانُ والظنُّ!

فتحمَّلنا جوعاً وعطشاً يتعسر علينا تحملُهُ في غيرِ هذا الشهرِ، فبان لنا أننا قادرون على ذلك، بل إن هذه القدرةَ يمازجها شعورٌ بالراحةِ والترحيبِ، فإننا نتقربُ بذلك إلى اللهِ تعالى، راجين ثوابَهُ، طالبين رضاه ورضوانَهُ.

فما بالُ بعضِ الناسِ إذن يقع في وهمِهِ العجزُ عن تحمل ذلك لظرفٍ طارئٍ في غيرِ شهرِ رمضانَ؟!

وما بالُ بعضِ الناسِ تسوء علاقتُهُ بأهلِهِ، أو بمَن قرب منه أو بعد عنه من الناسِ، بسببٍ الجوعِ والعطشِ، خصوصاً إذا كان السببُ في ذلك قصوراً أو تقصيراً يمكن تداركُهُ؟!

وصلابةُ الإرادةِ، وعقدُ العزمِ، هما ركنٌ ركينٌ في مبدأِ المثابرةِ.

ثانياً: أنسُنا بتلاوةِ كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ

فعلى مدى شهرِ كاملٍ وفق اللهُ تعالى الكثيرَ منا لختمِ القرآنِ، مرةً أو مرتين أو أزيدَ.

وإلى جانبِ ما ينالُهُ تالي القرآنِ من الثوابِ، فإن الغالبَ أنه يضاف إلى ذلك فوائدُ علميةٌ وتربويةٌ كثيرةٌ تفوق العدَّ والحصرَ.

فما الذي يمنع المؤمنَ أن يجعلَ من تلاوةِ هذا الكتابِ الكريمَ وِردَاً يوميّاً؟! وقد جاء عن أبي عبدِ اللهِ الصادقِ (عليه السلام) في ما رواه الشيخُ الكلينيُّ أنه قال القرآنُ عهدُ اللهِ إلى خلقِهِ فقد ينبغي للمرءِ المسلمِ أن ينظرَ في عهدِهِ، وأن يقرأَ منه في كلِّ يومٍ خمسين آيةً.

فتلاوةُ القرآنِ ترسم أولاً ملامحَ الطريقِ، ليتميزَ من خلالِهِ الصوابُ من الخطأِ، والهدى من الضلالِ، والاستقامةُ من الاعوجاجِ، كما أن تلاوةَ القرآنِ تؤكد ثانياً الوفاءَ بعهدِ اللهِ، فهي إذن ركنٌ من أركانِ المثابرةِ.

فاللهَ اللهَ في تلاوةِ كتابِ اللهِ، والمداومةِ عليها.

ثالثاً: أن الصائمَ في شهرِ رمضانَ أتيحت له الفرصةُ أن يدخلَ تجربةً عمليةً في اغتنامِ الفرصةِ، فوُفِّق بحمدِ اللهِ، وعليه أن يغتنمَها أحسنَ اغتنامٍ، وقد روي عن أميرِ المؤمنين (عليه السلام) أنه قال مَن أخَّر الفرصةَ عن وقتِها فليكن على ثقةٍ من فوتِها.

رابعاً: نعمةُ المغفرةِ

فقد كان شهرُ رمضانَ شهرَ الوعدِ بالمغفرةِ، واللهُ تعالى لا يُخلف الميعادِ، فهنيئاً لمن حظي بها، فقد روى الشيخُ الكلينيُّ، بسندِهِ، عن القاسمِ بنِ يحيى، عن جدِّهِ الحسنِ بنِ راشدٍ، قال في حديثٍ قلت لأبي عبدِ اللهِ (عليه السلام): إن الناسَ يقولون إن المغفرةَ تنزل على مَن صام شهرَ رمضانَ ليلةَ القدرِ؟ فقال: يا حسنُ إن القاريجار [الفاريجان، الناريجان] إنما يعطى أجرتَهُ عند فراغِهِ، ذلك ليلةَ العيدِ ...

فسؤالُ الراوي لم يكن عن أصلِ المغفرةِ، فهي مؤكدةٌ، بل عن توقيتِها.

فيا أيها المؤمنُ، ويا أيتها المؤمنةُ!

 علينا أن لا نفرِّطَ في مكاسبِنا العظيمةِ التي نلناها في شهرِ رمضانَ، بالفتورِ بعده، ناهيك عن النكوصِ والانقلابِ على الأعقابِ! 

بل علينا المثابرةُ! لنعدَّ أنفسَنا لشهرِ رمضانَ المقبلِ، فننالَ فيها أضعافَ ما نلناه في هذا الشهرِ، وبهذا نحقق ما أراده اللهُ تعالى ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ ‌أَيُّكُمْ ‌أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك: 2].

فالعملُ الصالحُ في عمليةِ صنعِ الإنسانِ الإنسانِ أمرٌ حسنٌ، وأحسنُ منه المثابرةُ عليه. وهذا ما أمرنا اللهُ به في أصلِ العبادةِ، كما نقرأه في مثلِ قولِهِ {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ} [مريم/ 65]، وهو ما أُمِرنا به في خصوصِ الصلاةِ، كما نقرأه في مثلِ قولِهِ تعالى {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها} [طه/ 132].

وقد ساق اللهُ تعالى لنا مثالاً لمن صبر فظفر مع أن ظواهرَ الأمورِ لم تكن تفيد ذلك. قال تعالى ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 249-250].

فلندعُ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يثبِّتَ أقدامَنا على طاعتِهِ، وتجنبِ معصيتِهِ، ليفيَ لنا بوعدِهِ الحقِّ حيث يقولُ ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].

فالانتكاسةُ مذمومةٌ ممن سبق، وممن لحق، قال تعالى لائماً مَن فرَّ يومَ أحدٍ، فلم يدُم على ما فرضه اللهُ عليه، وهذا جارٍ في حقِّ كلِّ أحدٍ في ما فرَض اللهُ عليه ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ ‌انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 144].

فلا غنى إذن عن المثابرةِ والمصابرةِ في صنعِ الإنسانِ الإنسانِ.

جعلنا اللهُ وإياكم من المثابرين المصابرينِ، وجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتبعون أحسنَهُ.

***

اللهم صلِّ على محمدٍ وآلِ محمدٍ.

اللهم كن لوليك الحجةِ بنِ الحسنِ، في هذه الساعةِ، وفي كلِّ ساعةٍ، وليّاً، وحافظاً، وقائداً، وناصراً، ودليلاً، وعيناً؛ حتى تسكنَهُ أرضَك طوعا، وتمتعَهُ فيها طويلاً.

اللهم انصر الإسلامَ والمسلمين، واخذل الكفارَ والمنافقين.

اللهم مَن أرادنا بسوءٍ فأرده، ومَن كادنا فكِده.

اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وأغنِ فقراءَنا، وأصلِح ما فسَد من أمرِ دينِنا ودنيانا، ولا تُخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا، يا كريمُ.

وصلى اللهُ على سيدِنا ونبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *