نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «توفيقٌ بعد التوفيقِ» يوم الجمعة 10 شوال 1445 هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.
بسم اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدِ الخلقِ وأشرفِ الأنبياءِ والمرسلين محمدٍ بنِ عبدِ اللهِ وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.
ربِّ اشرح لي صدري، ويسِّر لي أمري، واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي.
اللهم اجعل أعمالَنا خالصةً لوجهِك الكريمِ.
عبادَ اللهِ أوصيكم – ونفسي – بتقوى اللهِ والثباتِ عليها، فإن من التحدياتِ التي تواجه الإنسانَ هو الفتورُ والتراخي.
وإننا – إذ نحمد اللهَ تعالى على أن وفقنا وإياكم إلى صيامِ شهرِ رمضانَ، راجين أن تكونَ أسماؤنا في سجلِ المتقين – لا ينبغي أن يفوتَنا التنبهُ والتنبيهُ إلى أن الثباتَ على الهدى والصلاحِ لا يقل أهميةً عن أصلِ السيرِ في طريقِ الهدى والصلاحِ؛ فإن لدى الإنسانِ قابليةً للنكوصِ والانتكاسِ.
أولها: أن الإيمانَ طبقاتٌ، وأن المؤمنين ليسوا متساوين في الإيمانِ.
ثانيها: أن بين اللهِ وبين عبادِهِ المؤمنين عهداً فيه التزاماتٌ يجب الوفاءُ بها، والصدقُ فيها.
ثالثها: أن الصدقَ في العهدِ مع اللهِ تعالى فضيلةٌ، وكذلك العملُ بمقتضياتِهِ فضيلةٌ.
رابعها: أن الصدقَ في العهدِ مع اللهِ تعالى لا يتوفر في جميعِ المؤمنين؛ فإنهم في الإيمانِ على درجاتٍ بعضُها أرقى من بعضٍ، والإيمانُ مستوياتٌ بعضُهُ راسخٌ وبعضُه مهزوزٌ.
فمن المؤمنين مَن يعاهد اللهَ ويصدق في عهدِهِ، ويعمل بمقتضاه إلى أن يقضي نحبَهُ؛ بدونِ تبديلٍ أو فتورٍ أو تراخٍ أو نكوصٍ أو انتكاسٍ، ومنهم مَن يبدل تبديلاً، فهو لا يقف عند حدٍّ في التملصِ والتفلتِ مما عاهد اللهَ عليه، بل ينقض العهدَ بعد العهدِ.
خامسها: أن مَن يُجزَى جزاءَ الصدقِ، ويَنالَ جزاءَ الصادقين، إنما هم المؤمنون الثابتون على الإيمانِ، الحريصون على أن لا يبدِّلوا بالنكوصِ والانتكاسِ.
وإن مما تلوناه جميعاً، ونتلوه، في كتابِ اللهِ تعالى قولَهُ ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128]، وهذا يعني أن معيةَ اللهِ – التي هي التوفيقُ والتأييدُ والنصرةُ – إنما هي لِمن يتحلى بالتقوى ويترسخ فيه الإحسانُ من الناسِ حتى يكون من المحسنين فيهم، وهذا يلازم الثباتَ والدوامَ، وأما مَن يُحسن العملَ في شهرِ رمضانَ لكنه لا يثبت على ذلك بعده فإنه لا يكون من المحسنين، وليس له أن ينتظرَ معيةَ اللهِ المنصوصِ عليها في الآيةِ، ولا أن ينتظرَ ما يترتب عليها.
فشهرُ رمضانَ مباركٌ، وصيامُهُ توفيقٌ، وثوابُ الطاعاتِ فيه مضاعفٌ، لكن ذلك كلَّهُ لا يكفيك – أيها المؤمنُ، وأنت أيتها المؤمنةُ – زاداً تستغني به عن أن تتزودَ من الطاعةِ في غيرِهِ من الشهورِ والأيامِ.
فالإيمانُ، وفعلُ الطاعاتِ، وتجنبُ الذنوبِ والمعاصي، ليست عناوينَ تُلتزَم ليومٍ واحدٍ، أو شهرٍ واحدٍ، أو سنةٍ واحدةٍ، وإنما هي عهدٌ يبدأ من حينِ التكليفِ إلى أن يقضيَ الإنسانُ أجلَهُ.
وإذا أردتَ المزيدَ من الإيضاحِ، فإليك ما جرى في زمنِ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي حضورِهِ، بل وقيادتِهِ، ومع ذلك انتكس مَن انتكس، وخالف مَن خالف، فدفع ثمناً غالياً، ودفَّع الإسلامَ والمسلمين أثماناً غاليةً.
ففي معركةِ أحدٍ – والتي روي أنها وقعت في السابعِ من شهرِ شوالٍ، أو في الخامسِ عشرَ منه – حقق المسلمون بقيادةِ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) إنجازاً مهمّاً؛ حتى إنهم تغلبوا على المشركين المعتدين، لَما صدقوا ما عاهدوا اللهَ عليه، لكن بعضَهم خالف النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وظن أن الإنجازَ قد تحقق، وأنهم ليسوا ملزَمين بعده بالمحافظةِ عليه من خلال التزامِ أمرِ الرسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأتاحوا للمشركين فرصةً كانوا يتحينونها، فوقع بالمسلمين أذى راح ضحيتَهُ عددٌ كبيرٌ من الشهداءِ على رأسِهم سيدُهم أسدُ اللهِ وأسدُ رسولِهِ الحمزةُ بنُ عبدِ المطلبِ (عليه السلام).
فالتخلفُ عن أمرِ اللهِ تعالى وأمرِ رسولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ طلباً للدنيا يوقع في البلاءِ والمكروهِ، ويدفع بفاعلِ ذلك في غمٍّ بعد غمٍّ، وقد ينتهي به الحالُ إلى أن لا يستجيبَ للهِ ورسولِهِ، نعوذ باللهِ من ذلك.
وفي آيةٍ أخرى يؤكد اللهُ عزَّ وجلَّ على أن التدينَ بدينِهِ، والتزامَ منهاجِهِ وشريعتِهِ، لا ينبغي أن يُربطَ بأحداثٍ، ولا بأشخاصٍ، حتى لو كان هذا الشخصُ هو النفسَ الكريمةَ لرسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 144].
فرسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وجودٌ مباركٌ، لكن لا يجوز أن يُتديَّنَ للهِ تعالى في حياتِهِ، ثم إذا توفاه اللهُ حسب المسلمُ نفسَهٌ في حلٍّ بمستوى أن ينقضَ ما عاهد اللهَ عزَّ وجلَّ عليه، أو بايع رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه.
وشهرُ رمضانَ – أيها الأعزاءُ – هو شهرُ اللهِ، وهو أفضلُ الشهورِ، وهو شهرُ الطاعةِ والعبادةِ، لكن هذا لا يعني أن يكونَ المسلمُ في غيرِهِ من الشهورِ غيرَ مسؤولٍ تجاه ربِّهِ.
بل اللازمُ أن نجعلَ من شهرِ رمضانَ محطةَ إنجازٍ وأرباحٍ، ونجعل ما بعده من الشهورِ خزائنَ ندخر فيها الإنجازاتِ والأرباحَ، بل محطاتٍ لمراكمةِ الأرباحِ والإنجازاتِ.
وهذا ما يرشدنا إليه الإمامُ زينُ العابدين في دعائِهِ الذي كان يودع به شهرَ رمضانَ، حيث يقول “اللهم إنا نتوب إليك في يومِ فطرِنا الذي جعلتَهُ للمؤمنين عيداً وسروراً، ولأهلِ ملتِك مجمعاً ومحتشداً من كلِّ ذنبٍ أذنبناه، أو سوءِ أسلفناه، أو خاطرِ شرٍّ أضمرناه، توبةَ مَن لا ينطوي على رجوعٍ إلى ذنبٍ، ولا يعود بعدها في خطيئةٍ، توبةً نصوحاً خلصت من الشكِّ والارتيابِ، فتقبلها منا، وارضَ عنا، وثبِّتنا عليه”[1].
فالإمامُ زينُ العابدين (عليه السلام)؛ في دعائِهِ هذا، يسأل التوبةَ التي تعني الرجوعَ إلى اللهِ، والسيرَ على صراطِهِ المستقيمِ بعيداً عن جميعِ الذنوبِ والمعاصي والخطايا القوليةِ والفعليةِ والشعوريةِ، ثم يفصِل في هذه التوبةِ بأنها توبةُ العازمِ على الثباتِ عليها ثباتَ مَن لا يكون في شهرِ رمضانَ مطيعاً وبعده يرجع إلى ما كان عليه قبله من مخالفاتِ ومعاصٍ! بل ثباتَ مَن لا يحدث نفسَهُ بذلك.
فلنحرص – أيها المؤمنون والمؤمناتِ – على المداومةِ على تلاوةِ كتابِ اللهِ؛ فإنها إلى جانبِ ما فيها من الثوابِ العظيمِ، وأنها حقُّ اللهِ علينا، كفيلةٌ بأن تجعلَنا على علمٍ بما فيه هدانا علماً وعملاً، وحتى لا نهجرَ كتابَ اللهِ فيشكوَنا رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ربِّهِ مع مَن يشكو عليهم بقولِهِ ﴿إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: 30].
ولنحرص على أن لا نغبنَ أنفسَنا؛ بأن تكونَ سوالفُ أيامِنا خيراً من قوادمِها.
ولنحرص على أن نكونَ زيناً لرسولِ اللهِ وأهلِ بيتِهِ (صلوات الله عليه وعليهم)، حتى تنالَنا شفاعتُهم فإنهم الشافعون.
ولنحرص على حضورِ صلاةِ الجماعةِ في المساجدِ؛ فإن أميرَ المؤمنين (عليه السلام) كان يقول “مَن اختلف إلى المساجدِ أصاب إحدى الثمانِ: أخاً مستفاداً في اللهِ عزَّ وجلَّ، أو علماً مستطرفاً، أو آيةً محكمةً، أو رحمةً منتظرةً، أو كلمةً ترده عن ردى، أو يسمع كلمةً تدله على هدى، أو يتركُ ذنباً؛ خشيةً أو حياءً”[2].
وفي هذا الحديثِ لطائفُ نتناولها في حديثٍ آخرَ إن شاء اللهُ.
جعلنا اللهُ وإياكم ممن يستمعون القولَ فيتبعون أحسنَهُ.
***
اللهم صلِّ على محمدٍ وآلِ محمدٍ.
اللهم كن لوليك الحجةِ بنِ الحسنِ، في هذه الساعةِ، وفي كلِّ ساعةٍ، وليّاً، وحافظاً، وقائداً، وناصراً، ودليلاً، وعيناً؛ حتى تسكنَهُ أرضَك طوعا، وتمتعَهُ فيها طويلاً.
اللهم انصر الإسلامَ والمسلمين، واخذل الكفارَ والمنافقين، واردد كيدَهم إلى نحورِهم، واجعل تدميرَهم في تدبيرِهم، يا قويُّ يا عزيزُ.
اللهم مَن أرادنا بسوءٍ فأرده، ومَن كادنا فكِده.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وأغنِ فقراءَنا، وأصلِح ما فسَد من أمرِ دينِنا ودنيانا، ولا تُخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا، يا كريمُ.
وصلى اللهُ على سيدِنا ونبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.