حديث الجمعة

«الإمام عليٌّ (ع) وصناعةُ البصيرةِ» – يوم الجمعة 14 ربيع الثاني 1446 هـ

نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «الإمام عليٌّ (ع) وصناعةُ البصيرةِ» يوم الجمعة 14 ربيع الثاني 1446 هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.

بسم اللهِ الرحمنِ الرحيمِ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدِ الخلقِ وأشرفِ الأنبياءِ والمرسلين محمدٍ بنِ عبدِ اللهِ وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.

ربِّ اشرح لي صدري، ويسِّر لي أمري، واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي.

اللهم اجعل أعمالَنا خالصةً لوجهِك الكريمِ.

***

عبادَ اللهِ! أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ، وإن من التقوى أن يكونَ الإنسانُ على بصيرةٍ من نفسِهِ، ومن أمرِهِ، ومن زمانِهِ، فيعرفَ ما ينفعه وما يضره، ويعتقدَ الحقَّ دون الباطلِ، ويسلكَ طريقَ الهدى دون الضلالِ.

1 أهميةالبصيرة

فالبصيرةُ مهمةٌ، فبها ينجو الإنسانُ في الدنيا والآخرةِ، وقد عاب اللهُ أقواماً افتقدوا البصيرةَ، فقال ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46].

وبيَّن عاقبتَهم، فقال ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179].

لهذا، حثَّ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) على التبصرِ، فقال فيما رواه الشيخُ الصدوقُ على العاقلِ أن يكونَ بصيراً بزمانِهِ، مقبلاً على شأنِهِ، حافظاً للسانِهِ‏().

2 الظروفُ اللازمةُ

ولن يتأتى للإنسانِ أن يكونَ بصيراً دون أن يوفرَ الظروفَ اللازمةَ، فيروِّضَ الإنسانُ نفسَهُ على احتمالِ المكارهِ، وعلى اجتنابِ الشهواتِ، وعلى التضحيةِ في هذا السبيلِ، فقد قال أميرُ المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) إن أفضلَ الناسِ عند الله مَن كان العملُ بالحقِّ أحبَّ إليه وإن نقصه وكرثه() من الباطلِ وإن جرَّ إليه فائدةً وزاده().

ويجب التنبيهُ إلى أن ذلك يتطلب جهداً جهيداً، فلا يكفي لنجاةِ الإنسانِ أن يكونَ لبيباً وذا سمعٍ، ونظر، فقد قال عليٌّ (عليه السلام) في كلامٍ له .. وما كلُّ ذي قلبٍ بلبيبٍ، ولا كلُّ ذي سمعٍ بسميعٍ، ولا كلُّ ذي ناظرٍ ببصِيرٍ().

فإن مَن أحبَّ الدنيا، وتولَّه بها، عمي، وفي ذلك يقول (عليه السلام) عن أبناءِ الدنيا وعشاقِها .. أقبلوا على جيفةٍ قد افتضحوا بأكلِها، واصطلحوا على حبِّها، ومَن عشق شيئاً أعشى بصرَهُ، وأمرض قلبَهُ، فهو ينظر بعينٍ غيرِ صحيحةٍ، ويسمع بأذنٍ غيرِ سميعةٍ، قد خرقت الشهواتُ عقلَهُ، وأماتت الدنيا قلبَهُ، وولهت عليها نفسُهُ، فهو عبدٌ لها، ولِمن في يديه شيءٌ منها، حيثما زالت زال إليها، وحيثما أقبلت أقبل عليها، لا ينزجرُ من اللهِ بزاجرٍ، ولا يتعظُ منه بواعظٍ().

3 نماذج من فقدِ البصيرةِ

ولنقف وإياكم أيها المؤمنون والمؤمناتُ على نماذج ممن فقدوا البصيرةِ، سائلين اللهَ أن لا نكونَ وإياكم مثلَهم، فنقعَ في ما وقعوا فيها، ونبتلى بما ابتلوا به؛ لأن الأشياءَ تُعرف بأضدادِها.

النموذج الأول: خونةُ القيمِ

فإن من الناسِ مَن يرفع الشعاراتِ البراقةَ، ويعلن القيمَ الحقةَ، ولكنه في مقامِ العملِ العامِّ والخاصِّ لا يراعي ذلك، فيفضِّلَ المفضولَ على الفاضلِ، ويحرِمَ المستحقَّ، ويعطيَ غيرَ المستحقِّ، فيفضِّلَ بغيرِ الحقِّ!

ومثالاً على ذلك: أن أميرَ المؤمنين (عليه السلام) لَما بايعه الناسُ بالخلافةِ الظاهرةِ عوتب من قِبل بعضِ مَن كان حولَهُ من عليةِ القومِ ممن حظي بامتيازاتٍ ماليةٍ، ومن آخرين لا بصيرةَ لهم ولا حريجةَ في دينٍ عوتب على تصييرِهِ الناسَ أسوةً في العطاءِ، من غيرِ تفضيلٍ إلى السابقاتِ والشرفِ، حيث أرسيت قبل خلافتِهِ قواعدُ في العطاءِ من بيتِ المالِ ما أنزل اللهُ بها من سلطانٍ، فقال (عليه السلام):

أتأمروني أن أطلبَ النصرَ بالجورِ فيمن وليتُ عليه! واللهِ لا أطورُ به [أي لا أحومُ حولَهُ، ولا أقاربُهُ] ما سمر سميرٌ، وما أمَّ نجمٌ في السماء نجماً!

لو كان المالُ لي لسويتُ بينهم، فكيف وإنما المالُ مالُ اللهِ لهم().

النموذج الثاني: المغالون في الحبِّ والبغضِ

ونعني بالغلوِّ: الحيدةَ عن الحقِّ بالزيادةِ والنقيصةِ.

وإن مما لا ريبَ فيه أن الدينَ يدعو إلى تولي أناسٍ وبغضِ أناسٍ، فأولياءُ اللهِ يجب محبتُهم، وأعداءُ اللهِ يجب بغضُهم، غيرَ أن بغضَ هؤلاء وحبَّ أولئك يجب أن يكونَ مضبوطاً بميزانِ الحقِّ، فلا يصح الإفراطُ بالزيادةِ كما لا يصح التفريطُ بالنقيصةِ.

ومما ابتلي به أميرُ المؤمنين (عليه السلام) أن قوماً أفرطوا في محبتِهِ حتى قالوا بألوهيتِهِ وربوبيتِهِ، فكفروا وخرجوا عن ربقةِ الإسلامِ، وآخرين أبغضوه فنصبوا له العداءَ، وفي ذلك قال (عليه السلام) وسيهلِك فيَّ صنفان: محبٌّ مفرطٌ يذهب به الحبُّ إلى غيرِ الحقِّ، ومبغضٌ مفرطٌ يذهب به البغض ُإلى غيرِ الحقِّ().

3 كيف تُصنع البصيرةُ؟!

ولو سألنا أميرَ المؤمنين عليّاً (عليه السلام) كيف تُصنع البصيرةُ، لأفاضَ في ذلك، وفصَّل، ولننتقِ من حديثِهِ بعضَ العواملِ.

العامل الأول: التقوى

فمَن لا يتحلى بالتقوى لن يكونَ بصيراً.

وفي هذا قال عليٌّ (عليه السلام) .. أوصيكم بتقوى اللهِ الذي ابتدأ خلقَكم، وإليه يكون معادُكم، وبه نجاحُ طلبتِكم، وإليه منتهى رغبتِكم، ونحوَهُ قصدُ سبيلِكم، وإليه مرامي مفزعِكم، فإن تقوى اللهِ دواءُ داءِ قلوبِكم، وبصرُ عمى أفئدتِكم، وشفاءُ مرضِ أجسادِكم().

العامل الثاني: ترويضُ النفسِ

وفي هذا كتب أميرُ المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) لمالكٍ الأشترِ في عهدِهِ له .. وأمره أن يكسرَ نفسَهُ عند الشهواتِ، ويزعَها عند الجمحاتِ؛ فإن النفسَ أمارةٌ بالسوءِ، إلا ما رحم اللهُ().

العامل الثالث: الزهدُ في الدنيا

والزهدُ في الدنيا يعني أن يُتعاملَ معها على أساسِ أنها وسيلةٌ إلى الآخرةِ، وليست غايةً في نفسِها.

وفي ذلك يقول (عليه السلام) الزهادةُ: قصرُ الأملِ، والشكرُ عند النعمِ، والورعُ عند المحارمِ().

وقال (عليه السلام) رحم اللهُ امرأً تفكر فاعتبر، واعتبر فأبصر، فكأن ما هو كائنٌ من الدنيا عن قليلٍ لم يكن، وكأن ما هو كائنٌ من الآخرةِ عما قليلٍ لم يزل، وكلُّ معدودٍ منقضٍ، وكلُّ متوقعٍ آتٍ، وكلُّ آتٍ قريبٌ دانٍ().

العامل الرابع: العلمُ

وقد بيَّن الإمامُ عليٌّ ملامحَ ذلك في وصيتِهِ التي أوصى بها نجلَهُ الإمامَ الحسنَ (عليه السلام)، وبيَّن فيها مَن هو العالمُ، فقال :

.. فالعالمُ مَن عرف أن ما يعلم فيما لا يعلم قليلٌ فعدَّ نفسَهُ بذلك جاهلًا، فازداد بما عرف من ذلك في طلبِ العلمِ اجتهاداً، فما يزال للعلمِ طالباً، وفيه راغباً، وله مستفيداً، ولأهلِهِ خاشعاً مهتمّاً، وللصمتِ لازماً، وللخطأِ حاذراً، ومنه مستحيياً.

وإن ورد عليه ما لا يعرف لم ينكِر ذلك؛ لِما قرر به نفسَهُ من الجهالةِ.

وإن الجاهَل‏ مَن‏ عدَّ نفسَهُ بما جهل من معرفةِ العلمِ عالماً، وبرأيِهِ مكتفياً! فما يزال للعلماءِ مباعداً، وعليهم زارياً، ولِمن خالفه مخطئاً، ولِما لم يعرف من الأمورِ مضلِّلاً. فإذا ورد عليه من الأمورِ ما لم يعرفه أنكره، وكذَّب به، وقال بجهالتِهِ‏ ما أعرف هذا، وما أراه كان، وما أظن أن يكونَ، وأنى كان؟!

و ذلك لثقتِهِ برأيِهِ، وقلةِ معرفتِهِ بجهالتِهِ!

فما ينفك بما يرى مما يلتبس عليه رأيُهُ مما لا يعرف للجهلِ مستفيداً، وللحقِّ منكِراً، وفي الجهالةِ متحيراً، وعن طلبِ العلمِ مستكبرا().

ولقد تضمن هذا النصُّ الشريفُ عدداً من الحقائقِ:

الحقيقة الأولى: أن على الإنسانِ أن يتواضعَ ويقرَّ بأن ما يعلمه قليلٌ في جنبِ ما لا يعلمه، وهذا ما جاء في قولِ اللهِ تعالى ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85].

فليس ما نعلمه قليلٌ فحسب، بل إن ما يتاح لنا أن نعلمَهُ قليلٌ أيضاً.

الحقيقة الثانية: أن نطلبَ ما يجب طلبُهُ من العلمِ، بل أن نجتهدَ في ذلك، فلا يليق بالإنسانِ أن يقصِّرَ في ذلك، وإلا فإنه ستكثر أخطاؤه، وتتراكم خطاياه، وتكثر تبعاتُهُ، ويقصر حظُّهُ في الدنيا والآخرةِ.

الحقيقة الثالثة: أن لا يكابرَ أمام ما لا يعلم، بل يسارعَ إلى الإقرارِ بالجهلِ، حتى يُفتحَ له بابُ العلمِ أولاً، والتوفيقُ للعملِ به ثانياً.

فإن مَن يعتقد في نفسِهِ العلمَ بكلِّ شيءٍ، سيكتفي برأيِهِ، وسيَحرم نفسَهُ من علومِ الآخرين وعقولِهم، بل سيتكبر عليهم بغيرِ حقٍّ، ويحتقرُهم بغيرِ وجهٍ مشروعٍ، ويخطئهم وهو دونهم في العلمِ، وسيخبط خبطَ عشواءٍ في تخطئةِ الصوابِ، وتصويبِ الخطأِ، فيحكم على الضالِّ بالهدى، وعلى المهتدي بالضلالِ.

وستكون ذاتُهُ المتضخمةُ، ونفسُهُ المنتفخةُ، هي الميزانَ في الحكمِ، فيكثر على لسانِهِ في النفيِ بالهوى قولُهُ ‏(ما أعرف هذا)، أو (ما أراه كان)، أو (ما أظن أن يكونَ)، أو (أنى كان؟!)، وما شابه ذلك من عباراتٍ!

كلُّ هذا بسببِ ثقتِهِ المبالغِ بها برأيِهِ، وجهلاً منه بجهالتِهِ!

فإذا ترسخت هذه الحقائقُ والوقائعُ في نفسِ إنسانٍ، فسيجد نفسَهُ ممعناً من حيث لا يشعر في الإعجابِ بنفسِهِ، وسيسارع إلى إبداءِ النظرِ في حقولٍ من المعرفةِ لا نصيبَ له فيها، وسيهرف بما لا يعرف!

ولنختم بما جاء مسنداً عن الإمامِ الصادقِ (عليه السلام)، أنه قال إن اللهَ تبارك وتعالى حصر عبادَهُ بآيتين من كتابِهِ: ألا يقولوا حتى يعلموا، ولا يردُّوا ما لم يعلموا. إن اللهَ تبارك وتعالى يقول { .. أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَق .. } [الأعراف: 169]، وقال { .. بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ .. } [يونس“39]”().

فالمطلوبُ لِمن أراد أن يكونَ بصيراً أن يكون عالماً، أو طالباً للعلمِ دائماً، وأن لا يتسرعَ في القولِ بما لا يعلم، أو ردِّ ما لا يحيط به علماً؛ فإنه إن فعل ذلك لن يكونَ من ذوي البصيرةِ، ولا من طلابِها.

جعلنا اللهُ وإياكم من ذوي البصائرِ، وممن يستمعون القولَ فيتبعون أحسنَهُ، إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه.

***

اللهم صلِّ على محمدٍ وآلِ محمدٍ.

اللهم كن لوليك الحجةِ بنِ الحسنِ، في هذه الساعةِ، وفي كلِّ ساعةٍ، وليّاً، وحافظاً، وقائداً، وناصراً، ودليلاً، وعيناً؛ حتى تسكنَهُ أرضَك طوعا، وتمتعَهُ فيها طويلاً.

اللهم انصر الإسلامَ والمسلمين، واخذل الكفارَ والمنافقين.

اللهم مَن أرادنا بسوءٍ فأرده، ومَن كادنا فكِده.

اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وأغنِ فقراءَنا، وأصلِح ما فسَد من أمرِ دينِنا ودنيانا، ولا تُخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا، يا كريمُ.

وصلى اللهُ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *