حديث الجمعة

«التوأمةُ بين العقلِ والدينِ» يوم الجمعة 11 صفر 1446 هـ

نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «التوأمةُ بين العقلِ والدينِ» يوم الجمعة 11 صفر 1446 هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.

بسم اللهِ الرحمنِ الرحيمِ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدِ الخلقِ وأشرفِ الأنبياءِ والمرسلين محمدِ بنِ عبدِ اللهِ وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.

ربِّ اشرح لي صدري، ويسِّر لي أمري، واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي.

اللهم اجعل أعمالَنا خالصةً لوجهِك الكريمِ.

عبادَ اللهِ! أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ؛ وإنه لا تقوى بدونِ عقلٍ ودينٍ.

وقد مرَّ علينا قبلَ أيامٍ ذكرى شهادةِ السبطِ الأولِ لخاتمِ النبيين محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ أعني الإمامَ الحسنَ المجتبى (عليه السلام)، والذي استفاض بين المسلمين قديماً وحديثاً ما قاله جدُّه المصطفى في حقِّهِ وحقِّ أخيه الإمامِ الحسينِ (عليهما السلام) أنهما سيدا شبابِ أهلِ الجنةِ.

فإذا علمنا أن هذه المقالةَ إنما صدرت عمن شهد اللهُ تعالى له بقولِهِ ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا ‌وَحْيٌ ‌يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ [النجم: 3-9].

وإذا علمنا أن الشهادةَ لفلانِ أو فلانٍ بالجنةِ لا تكون إلا عن علمٍ، وأن استحقاقَ الجنةِ لا يكون إلا عن إيمانٍ وعملٍ صالحٍ، وأن السيادةَ على أهلِها لا تكون إلا عن إمامةٍ وصدارةٍ في الإيمانِ والعملِ الصالحِ، فسنكون بين يدي شهادةٍ على درجةٍ عاليةٍ من الاعتبارِ، تجعل من المشهودِ له أهلاً لأن يُتلقَّى منه ما يؤدي بالمتلقِّي إلى الجنةِ.

ولنصغِ أيها المؤمنون والمؤمناتِ على مقالتين من مقالاتِ الإمامِ المجتبى (عليه السلام)، لنتعرف من خلالِهما على مكانةِ العقلِ والدينِ في تحسينِ السيرةِ والمسيرةِ، ولزومِ التوأمةِ بينهما؛ فإنهما بمثابةِ القدمين اللذين لا يستغني عنهما الراغبُ في السيرِ، راجين أن نكونَ وإياكم ممن يوفق للعلمِ والعملِ.

أما المقالةُ الأولى، فهي قولُهُ إن أبصرَ الأبصارِ ما نفذ في الخيرِ مذهبُهُ، وأسمعَ الأسماعِ ما وعى التذكيرَ وانتفع به، [و] أسلمَ القلوبِ ما طهُر من الشبهاتِ.

والإمامُ الحسنُ المجتبى (عليه السلام) ينطلق في مقالتِهِ هذه من حقائقَ يعرفها جميعُ الناسِ، وهي:

أولاً: أن البصرَ نعمةٌ، فإن به يُعرف الطريقُ المؤدي والطريقُ المسدودُ، ويعرف به ما في الطريقِ من عقباتٍ، وبه يعرف الجميلُ من القبيحِ، وبه يُتعلم ويعلَّم عبر القراءةِ والكتابةِ.

فإذا حُرِم الإنسانُ من نعمةِ البصرِ، فإنه يُحرَم من خيرٍ كثيرٍ.

وهناك بصرٌ معنويٌّ إلى جانبِ البصرِ الماديِّ.

ثانياً: أن السمعَ نعمةٌ، فإن به يُتعرف على الأصواتِ، وبه يميَّز الاشخاصُ، وتُتلقَّى الكلماتُ فيعلم ما كان مجهولاً، ويحدَّد القريبُ والبعيدُ، وبه يميَّز الصوابُ من الخطأِ، والحقُّ من الباطلِ، والحسنُ من الأصواتِ من القبيحِ.

فمَن حُرِم من السمعِ حُرِم من خيرٍ كثيرٍ.

ثالثاً: أن القلبَ نعمةٌ. ويراد به جهازُ الإدراكِ بما يشمل العقلَ.

فبالقلبِ يمتاز الإنسانُ عن البهائمِ، وبه يمتاز العالمُ عن الجاهلِ.

وقد جمع اللهُ تعالى بين هذه النعمِ الثلاثِ، وبيَّن دورَها في تقويمِ السلوكِ الإنسانيِّ، وحذَّر من إهمالِها، في قولِهِ ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ‌إِنَّ ‌السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36].

وقد أضاف الإمامُ المجتبى (عليه السلام) إلى الحقائقِ الثلاثِ حقيقةً رابعةً، وهي أن هذه النعمَ تتفاوت في الناسِ من حيث استثمارِها والاستفادةِ منها، فالمطلوبُ الفطريُّ للإنسانِ هو الخيرُ، ومبغوضُهُ الفطريُّ هو الشرُّ، والطريقُ إلى العلمِ بهما، وإلى نيلِهما، هو هذه النعمُ الثلاثُ؛ أعني البصرَ والسمعَ والقلبَ، وهنا يتفاضل الناسُ ويتفاوتون. لذلك، قال الإمامُ (عليه السلام) إن أبصرَ الأبصارِ ما نفذ في الخيرِ مذهبُهُ، وأسمعَ الأسماعِ ما وعى التذكيرَ وانتفع به، [و] أسلمَ القلوبِ ما طهُر من الشبهاتِ.

فالبصرُ الأفضلُ هو ما أدى بصاحبِهِ إلى العلمِ بالخيرِ، وإلى سلوكِ دربِهِ، وإلا فسيكون بصراً عادياً لا تميزَ فيه.

والسمعُ الأفضلُ هو ما أتاح لصاحبِهِ أن يحسنَ الاستماعَ والانتفاعَ بما يقرع سمعَهُ، فيبادرَ إلى العملِ بما علم، فيتجنب الباطلَ وأهلَهُ، ويأخذَ الحقَّ ويكون مع أهلِهِ ويجتهدَ في أن يكونَ منهم.

وأما القلبُ الأفضلُ فهو ما طهر من الشبهاتِ، ولا يكون ذلك إلا لِمن حرص على أن يأخذَ بالعلمِ الصائبِ الذي لا يُنال بدورِهِ إلا من أبوابِهِ ومن أهلِهِ. ولا يوفق له إلا مَن اجتهد في تنقيةِ باطنِهِ من الشوائبِ والملوِّثاتِ التي تحول بين الإنسانِ وبين الحقِّ الصراحِ.

وأما المقولةُ الثانية لإمامِنا المجتبى (عليه السلام)، فهي قولُهُ لا أدبَ لِمن لا عقلَ له، ولا مروةَ لِمن لا همةَ له، ولا حياءَ لِمن لا دينَ له. ورأسُ العقلِ معاشرةُ الناسِ بالجميلِ، وبالعقلِ تُدرك الداران جميعاً، ومَن حُرِم من العقلِ حُرمَهما جميعاً.

فالإمامُ (عليه السلام) يقارب في هذه المقولةِ مجموعةً من السماتِ والسلوكياتِ التي لا يستغني عنها مجتمعةً كلُّ راغبٍ في استقامةِ الحياةِ ونقائها من المنغصاتِ بما يحظى معه بالخيرِ العاجلِ والآجلِ.

أما أولُ هذه السماتِ والسلوكياتِ، فهو: العقلُ

والإمامُ (عليه السلام) يقرر معادلةً لا تتخلف، وهي أنه لا أدبَ لِمن لا عقلَ له، وذلك أن الإنسانَ إذا افتقد العقلَ والمرادُ به العقلُ العمليُّ؛ أي ما يُنظَّم به السلوكُ، وليس النظريَّ الذي تُدرَك به العلومُ إن الإنسانَ إذا افتقد هذا العقلَ لم يحسن التصرفَ مع الناسِ.

فغيرُ العاقلِ لا يعنيه أن يحترمَ الناسَ، أو أن يحترمَهُ الناسُ، وهو لا يبالي بما يقول، ولا بما يقال له وفيه، وهو لا يستقبح القبيحَ من نفسِهِ ولا من غيرِهِ، وهو لا يستحسن الحسنَ من نفسِهِ ولا من غيرِهِ.

فبين العقلِ والأدبِ تلازمٌ.

فمَن أراد أن يكونَ من أهلِ الأدبِ، فليجتهد في زيادةِ منسوبِ التعقلِ عنده، وهو أمرٌ ميسورٌ لِمن اجتهد في معرفتِهِ وفي تحصيلِهِ.

وأما ثاني هذه السماتِ والسلوكياتِ، فهو: المروَّةُ

والمقصودُ بالمروَّةِ هو الخلقُ الذي يفرض على الإنسانِ أن يكونَ نجيباً في نفسِهِ، وشهماً مع الآخَرين.

والشرطُ الذي بيَّنه الإمامُ (عليه السلام) للمروةِ أن يتحلى الإنسانُ بالهمةِ، فالكسالى من الناسِ لا يُتصوَّر في حقِّهم أن يكونوا ذوي مروَّةٍ؛ لأن المروَّةَ تتطلب الإقدامَ والمبادرةَ والمثابرةَ، والكسالى ليسوا من أهلِ ذلك.

ومن هنا قال الإمامُ (عليه السلام) لا مروةَ لِمن لا همةَ له.

وأما ثالثُ السماتِ والسلوكياتِ، فهو: الدينُ

وذلك أن الدينَ هو ما يُنتج الحياءَ الذي هو فضيلةٌ أخلاقيةٌ والتي تعني أن لا يُقدِم الإنسانُ على القبيحِ من الأفعالِ والأقوالِ.

ولا ينبغي الخلطُ بين الحياءِ وبين الخجلِ.

فالإنسانُ الحييُّ لا يصدر منه قولٌ ولا فعلٌ يراه العقلاءُ قبيحاً، لذلك فإنهم يأمنون جانبَهُ، فالخيرُ منه مأمولٌ، والشرُّ منه مأمونٌ.

والإمامُ (عليه السلام) يقرر هنا معادلةً لا تتخلف وهي أنه لا حياءَ لِمن لا دينَ له. وذلك أن الإنسانَ المتدينَ يراقب ربَّه سبحانه في ما يصدر منه، والخلأُ عنده والملأُ سواءٌ، فهو لا يقارف القبيحَ من الأفعالِ والأقوالَ لأنها قبيحةٌ، ولأنها مبعِّدةٌ عن اللهِ، وموجبةٌ لسخطِهِ، وليس لأن الناسَ يستقبحونها، فهي يستحيي من ربِّهِ قبل أن يستحييَ من الناسِ.

لذلك، فإن ضمانةَ تحلي المتدينِ الصادقِ بالحياءِ هو دينُهُ، فإذا كان الإنسانُ ممن لا دينَ له فإنه لا حياءَ له، وإذا استحيى حيناً فلن يكونَ كذلك في حينٍ آخرَ.

ثم إن الإمامَ (عليه السلام) خصَّ السمةَ والسلوكيةَ الأولى، وهي العقلُ بشيءٍ من التفصيلِ، حيث نبه إلى ثلاثةِ أمورٍ:

الأمر الأول: أن للعقلِ مراتبَ، بعضُها فوق بعضٍ، وأن رأسَ هذه المراتبِ هو معاشرةُ الناسِ بالجميلِ.

فلا يليق بالعاقلِ أن تسوءَ تصرفاتُهُ مع الناسِ، من دون فرقٍ بين مَن قرُب منه أو بعُد عنه! فلجميعِ الناسِ في دينِ العاقل حقٌّ في أن يعاشَروا بالجميلِ، فلا يقال لهم إلا القولَ الجميلَ، ولا يُتصرف معهم إلا بالتصرفِ الحسنِ والجميلِ.

فما نجده عند بعضِ الناسِ من غلظةٍ وفظاظةٍ في قولٍ أو فعلٍ، خصوصاً عند الاختلافِ أو المزاحِ، ينافي الجميلَ الذي يسعى يدرك العاقلُ حسنَهُ، ولا يليق به إلا أن يتحلى به، فالفظُّ والغليظُ يفقد من عقلِهِ العمليِ بمقدارِ فظاظتِهِ وغلظتِهِ، وإن لم يدركه من نفسِهِ فإن الناسَ يدركونه منه!

وإذا وجد العاقلُ (العقلاءَ) من الناسِ لا يحمدون فعلَهُ أو قولَهُ، فليحاسب نفسَهُ! فالغالبُ أن الخطأَ منه وهو لا يدرِك!

الأمر الثاني: أن التحليَ بالعقلِ هو ما يتيح للإنسانِ أن يدركَ الدراين، فيسعدَ في الحياةِ الدنيا ويسعدَ في الآخرةِ.

الأمر الثالث: أن التخليَ عن العقلِ، والحرمانَ منه يسبب الحرمانَ من الدنيا والآخرةِ، أي السعادةَ فيهما.

وفي هذا يقول الإمامُ الصادقُ (عليه السلام) أنه قال مَن كان عاقلاً كان له دينٌ، ومَن كان له دينٌ دخل الجنةَ.

وخلاصةِ القولِ أيها المؤمنون والمؤمناتُ أن الإمامَ الحسنَ (عليه السلام)، وهو واحدٌ من الأئمةِ المطهرين الناطقين باسمِ اللهِ تعالى، يبين لنا أن ثمةَ توأمةً بين الدينِ والعقلِ.

وعليه، فإنه لا دينَ بلا عقلٍ، ولا عقلَ بلا دينٍ، ولا سعادةَ بدون عقلٍ ودينٍ، ولا شقاءَ مع عقلٍ ودينٍ.

والسببُ يكمن في ما قاله سيدُ العترةِ ورئيسُها أميرُ المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) وليس للعاقلِ أن يكونَ شاخصاً إلا في ثلاثٍ: مرمةٍ لمعاشٍ، أو خطوةٍ في معادٍ، أو لذةٍ في غيرِ محرمٍ.

فالعمرُ بالنسبةِ للعاقلِ وهو المتدينُ الصادقُ أمانةٌ إلهيةٌ يعلم أنه مسؤولٌ عنها يومَ القيامةِ، لذلك فإنه لا يستهلكه إلا في ما ينفعه، فهو لا يصرفه إلا إصلاحِ معاشهِ، أو إصلاحِ معادِهِ، أو الالتذاذِ بما أباحه اللهُ له، ولا وقتَ لديه لغيرِ هذه الأمورِ؛ لأنه سيُسأل عنها، ويحاسَب عليها!

فالعملُ بجدٍّ واحتهادٍ في معرفةِ الدينِ وأحكامِهِ، والعقلِ وحِكَمِهِ، والعملُ على تمثلِها في النفسِ، وتجسيدِها في السلوكِ، هو ما يجب على كلِّ واحدٍ منا أن يعملَ عليه، وليس له أن يهملَهُ.

نسأل اللهَ أن نكونَ وإياكم ممن يستمعون القولَ فيتبعون أحسنَهُ والسلامُ على إمامِنا الحسنِ يوم ولد، ويومَ استشهد، ويومَ يبعث حيًاً، رزقا الله وإياكم زيارتَهُ وزيارةَ جدِهِ وأبيه وأمِّهِ وأخيه والتسعةِ المعصومين بني أخيه، وشفاعتَهم.

***

اللهم صلِّ على محمدٍ وآلِ محمدٍ.

اللهم كن لوليك الحجةِ بنِ الحسنِ، في هذه الساعةِ، وفي كلِّ ساعةٍ، وليّاً، وحافظاً، وقائداً، وناصراً، ودليلاً، وعيناً؛ حتى تسكنَهُ أرضَك طوعا، وتمتعَهُ فيها طويلاً.

اللهم انصر الإسلامَ والمسلمين، واخذل الكفارَ والمنافقين، واردد كيدَهم إلى نحورِهم، واجعل تدميرَهم في تدبيرِهم، يا قويُّ يا عزيزُ.

اللهم مَن أرادنا بسوءٍ فأرده، ومَن كادنا فكِده.

اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وأغنِ فقراءَنا، وأصلِح ما فسَد من أمرِ دينِنا ودنيانا، ولا تُخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا، يا كريمُ.

وصلى اللهُ على سيدِنا ونبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *