كتب ومؤلفات

الإمامة من منظور العلامة الشيخ عبد الهادي الفضلي

السيد حسن النمر الموسوي

الإمامة من منظور العلامة الشيخ عبد الهادي الفضلي (*)

* أهمية البحث :

1 – يشكّل الفكر الإسلامي بعامة ، والكلامي منه بخاصة ، منعطفاً في تاريخ البشرية ؛ المعرفي والثقافي منه ، بل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي … ، باعتبارين :

أ – أنه يشكّل التفسيرَ والبيانَ للحلقة الأخيرة من حلقات الوحي النازل من الله تعالى لإصلاح البشرية ، عبر تزويدها بما يجب أن تتزود به من معارف عن الكون والحياة والإنسان ، وعن المبدأ والمنتهى ….

ب – أنه انفتح – بلحاظ غالبية منتسبيه – على مختلف صنوف التراث العلمي الإنساني ، بشقيه الوحياني وغير الوحياني ، فانتقى منه ما وجد صلاحه ، وردّ ما وجد أنه لا ينسجم ومسلماته ؛ المستقاة من الكتاب الكريم والسنة المطهرة .

2 – عصف بالفكر الإسلامي – كغيره من المشاريع الفكرية ؛ السماوية والأرضية على حد سواء – عواصفُ ، وألمت به عواملُ ؛ فرّقت شملَ أبناء الإسلام .

ويمكن تصنيف بعض هذه العوامل على أنه موضوعيٌّ ؛ وأنه من مقتضيات الطبيعة الإنسانية المستبطِنة للتنوع والتعدد والاختلاف من جهة ، ومن مقتضيات الامتحان الرباني للإنسان ، حيث ابتلي بالحق والباطل في جانبيهما العلمي والعملي من جهة ثانية ، في ما يصنف بعضه الآخر ضمن ما هو غير موضوعي ، تحكمت فيه الأهواء والسياسات والتعصب والجهل([1]).

3 – كان لابد للتعرف عليه من تأريخه أولاً ، قبل الحكم له أو عليه . وكان لابد من تحري الدقة في قراءته وتفكيكه ثانياً ؛ إذا كان الباحث بصدد الحكم عليه أو له ؛ سلباً أو إيجاباً .

4 – تتفاوت المسائل المبحوثة في الفكر الكلامي من حيث أهميتها . فبعضها يأتي في المرتبة الأولى ، وبعضها الآخر في المرتبة الثانية ، وهكذا . وقد تعارف علماء الكلام وباحثوه على تسمية المسائل من المرتبة الأولى بـ( أصول الدين ) ، وجعلوا المسائلَ من المرتبة الثانية فروعاً لها .

5 – تشكل ( مسألة الإمامة ) مفصلاً هاماً ، ومنعطفاً خطيراً ، في مسار الفكر الكلامي عموماً ، والإمامي خصوصاً .  انعكست صراعاً حاداًّ في الأوساط الإسلامية ؛ لتتجاوز حلقات النقاش الفكري – أحياناً – وتصل إلى حد إراقة الدماء .

حتى قال المؤرخ للفكر الكلامي محمد بن عبد الكريم الشهرستاني : وأعظم خلاف بين الأمة خلافُ الإمامة . إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُل على الإمامة في كل زمان )([2]).

وقال الخضري بك : إن هذه المسألة كانت سبباً لأكثر الحوادث التي أصابت المسلمين ، وأوجدت ما سيرد عليهم من أنواع الشقاق ، والحروب المتواصلة ، التي قلما يخلو منها زمن ، سواء كان بين بيتين ، أو بين شخصين)([3]).

وإذا كان لمسألة الإمامة كلُّ هذا الأثر فليس الحلُّ هو أن نتجاهلها ؛ بأن لا تُبحث ؛ فضلاً عن أن يُجرِّم مَن يقوم بذلك . لأن في ذلك إقراراً بالعجز من جهةٍ ، وهو ما لا يقوله أحدٌ من العلماء والباحثين ، أو تشكيكاً بأن القرآن الكريم والسنة المطهرة لم يعالجاها من جهةٍ أخرى ! وفي ذلك إنكارٌ لحقيقةٍ قرآنيةٍ مسلّمةٍ ؛ مفادها : أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شاهدٌ على الأمة ، وأن القرآن تبيانٌ لكل شيء وأنه هدى ورحمة وبشرى للمسلمين . قال تعالى ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾[4].

فكيف يكون الرسول شهيداً على ما لم يفعله ؟!

وكيف يكون الكتاب تبياناً على ما لم يبينه ؟! وبطبيعة الحال فإنه لن يكون – حينئذٍ – ( هدى ) ، ولا ( رحمة ) ، ولا ( بشرى ) للمسلمين !! وليس في المسلمين من يقر بذلك .

أجل ، لو قلنا إن القرآنَ بيّن ( الإمامة ) ، وكذلك الرسولَ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أفصح عنها ، غير أن المسلمين اختلفوا حولها وفيها ؛ لدواعٍ متفاوتةٍ ، لكان أفضلَ وأليقَ وأصحَّ ، من نسبة التقصير لله تعالى عن ذلك علواً كبيراً ، أو لكتابه الذي ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ﴾ [فصلت/ 42] ، أو لرسوله الموصوف بأنه ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ  [التوبة/ 128] .

6 – وعلى كل حال ، فإذا كان لـ( الإمامة ) هذه الأهمية ، وإذا كان العلامة الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي من المختصين و المهتمين بالفكر الإسلامي على مستوى الدرس والتدريس والبحث ، والتعريف والتجديد ، وهو الذي عُقِد البحثُ لأجل أداء بعضِ حقِّه في ملفٍّ خاصٍّ([5])، فبطبيعة الحال سيكون لـ( الإمامة ) ؛ في : اهتماماته ، ونتاجاته الكثيرة ، حضورٌ يتناسب وأهميتَها .

وهذا ما نجده في عددٍ من كتبه. وأخص بالذكر منها :

(‌أ) كتاب في انتظار الإمام ، والذي عالج فيه مسألة الدولة الإسلامية في عصر الغيبة .

(‌ب) كتاب الدولة الإسلامية .

(‌ج) كتاب مذهب الإمامية .

(‌د) كتاب التربية الدينية .

(‌ه) كتاب خلاصة علم الكلام .

*  *  *

المطلب الأول : أصول الدين وفروعه

تتفاوت المعارف الدينية من حيث أهميتها ، كما تقدم في الفقرة (4) بداية البحث . ومنه توزعت مسائل الدين ومعارفه إلى : أصول ، وفروع .

وفي ذلك يقول العلامة الفضلي :

… وهذا التقسيم للدين إلى : أصول ، وفروع ، مأخوذٌ من تقسيمهم الدين إلى : معرفة ، وطاعة .

ويعنون بالمعرفة : العقيدة ، وبالطاعة : العمل . ولأن العمل ، بطبيعته ، يقوم على ( المعرفة ) سُمّيت مفاهيم وأحكام المعرفة بـأصول الدين ، ومفاهيم وأحكام الطاعة بفروع الدين )([6]).

والقسم الأول هو ما عالجه علماء الإسلام ضمن ما يسمى بعلم الكلام ، أو العقيدة ، أو أصول الدين … حيث شكلت هذه الأصول موضع البحث فيه([7]).

المطلب الثاني : كلام في المنهج

من نافلة القول الإشارةُ إلى أن الفرق بين الأصول والفروع لا يقف عند حدود الترتيب في الأهمية ؛ حيث تتقدم الأولى / الأصول على الثانية / الفروع ، بل يتعداه إلى منهج البحث ، الذي قد يختلف من مدرسة إلى مدرسة ، حسب طبيعة تلقي هذه المدرسة أو تلك للدين .

ومن ثم فإن العلامة الفضلي يؤكد على المنهج وعلى اختلافه بقوله :

منهج البحث في علم الكلام ، أو الطريقة التي يعتمدها الباحث في دراسة مسائله وقضاياه ، أفكاره ونظرياته ، يختلف باختلاف وجهات نظر علمائه ومدارسه التي تعرف بالفرق الكلامية في المنهج الذي ينبغي أن يتبع في دراسة وبحث الفكر الديني )([8]).

ويعرِّف باحثنا بالمناهج السائدة في المدارس الكلامية ، فيذكر أنها خمسة([9]):

1 – المنهج النقلي .

2 – المنهج العقلي .

3 – المنهج التكاملي .

4 – المنهج الوجداني .

5 – المنهج العرفاني .

ولا يخفى أن لكلِّ واحدٍ من هذه المناهج خصائصَه التي تميزه ، بل وتفرضه أحياناً .

وقد اختار العلامة الفضلي – في دراسته لـ(أصول الدين) في كتابه خلاصة علم الكلام – ثالثها ؛ أعني ( المنهج التكاملي ) . وهذا المنهج هو السائد – عموماً – في أوساط الباحثين والدارسين من أتباع المذهب الإمامي ، وإن لم نجد من سماه بهذا الاسم غير العلامة الفضلي .

وفي ذلك يقول :

سأنتهج – وسع الطاقة – المنهجَ التكامليَّ في ما أبديه من ملاحظاتٍ ، وفي ما أقوم به من معالجات ومناقشات )([10]).

ثم إنه أشار إلى سمات هذا المنهج وخصائصه ، التي تشكل معالمه وأدوات البحث فيه ، وهي – فيما يذكره – كالتالي :

1 – الجمع بين العقل والنقل ؛ لأنه لا تعارض بينهما في الحقيقة والواقع .

2 – الأخذ بظاهر النص إن كان مجرداً من القرائن الصارفة ، ولم يتعارض والضرورة العقلية ، وإلا ففي ضوء ما يقترن به من قرائن نقلية أو عقلية ، لفظية أو معنوية .

3 – آيات القران يفسر بعضها بعضاً ، ويقرن بعضها البعض .

4 – السنة القطعية تقرن القرآن ، وتفسره .

5 – الأثر المنقول لا يعارض القرآن ؛ حتى ولو كان صحيحاً ، وفق قواعد علمي الرجال والحديث . فإذا لم يمكن تأويله ، تسقطه المعارضةُ من الاعتبار .

6 – جواز التأويل عند وجود ما يقتضيه .

7 – الحمل على المجاز مع وجود القرينة الداعية لذلك .

8 – تفسير المتشابه بالمحكم ، أو تأويله ؛ في ضوء المعقولات المرعية )([11]).

ولا يخفى ضرورة تحديد المنهج أولاً ، وتبيان أصالته ثانياً ، لأن الخلاف الذي وقع بين المسلمين في قراءة الدين وتفسيره يقوم على أساس اختلافهم المنهجي . ولذلك ، لا نتوقع أن ترتفع جميع الإشكالات بينهم ؛ باعتبار أن كثيراً منها هو – في جوهره – خلافٌ تطبيقيٌّ ، تنعكس فيه خلافاتهم الأشد تجذّراً ؛ ونعني بها الاختلافات المنهجية في الدرجة الأولى .

كما لا يخفى أن تحديد المنهج ، وإعلان الالتزام به ، ليس بالضرورة يتطابق والممارسةَ العمليةَ . وسيأتي بعض الشواهد التي ساقها العلامة الفضلي على ذلك .

* العقل / النقل

عانى المسلمون ماضياً ، ولا يزالون يعانون حاضراً ، من مشكلة التوفيق بين أحكام العقل ومؤديات النقل . حتى انبرى بعضُ المتكلمين للتدوين فيها ؛ فسطرت المؤلفات والكتب([12]).

فهل هما ؛ أي العقل والنقل ، في صدام أم أنهما على وئام ؟!

في خصوص هذه الملاحظة تقدم أن المنهج التكاملي لا يرى صداماً بل وئاماً تاماً . وعليه جرى باحثنا – عملياًّ – بعد أن أكَّد على الالتقاء التام . فهو يقول ذلك :

وقرنت العقلَ بالنقل ؛ لِما بين العقل والشرع من التقاءٍ تامٍّ . فلم أسلك المنهج العقلي خالصاً ، ولا المنهج النقلي محضاً ) .

وهو – في ذلك – يؤكد على ما تاه في ركام الخلاف والاختلاف بين المسلمين من حقيقة هي أشبه ما تكون بالبديهية في الفكر الإسلامي ، أعني التآزر بين مقولتي : العقل / النقل .

هذا التآزر الذي أضاعه تعصبُ بعض الفرقاء الإسلاميين ؛ ممن أتيحت لهم فرصة الهيمنة السياسية عبر العبر العصور على مراكز العلم وحواضره في عالمنا الإسلامي ، فنبتت ظاهرة إلغاء العقل وإقصائه لدى فريقٍ ، ليتولد أمامه ردُّ فعلٍ عنيفٍ سعى – ولا يزال – إلى تهميش النقل عن معترك الحياة ؛ بذريعة استحضار العقل والعقلانية .

وما نجده لدى باحثنا ، في ما سقناه من تعريفٍ بالمنهج وخصائصه ، فإنه يؤكد على ضرورة المحافظة على هذا التآزر والتآخي والتصالح على المستويين النظري والتطبيقي .

ومن المفيد – أيضاً – أن نشير إلى أن التطبيق الصارم لهذا المنهج قد يؤدي بنا إلى الانتفاض على بعضٍ ما يُعد من المسلَّمات لدى فريق إسلامي آخر([13])، دون أن يُفسد ذلك للود قضية([14]).

 

المطلب الثالث : الإمامة أصل من أصول الدين

كتطبيقٍ للمنهج آنف الذكر نشير إلى أن المدارس الكلامية الإسلامية اختلفت في مسألة ( الإمامة ) ؛ من حيث كونها أصلاً من أصول الدين أم لا ؟

فتبنى فريقٌ الرأيَ الأولَ ؛ وفقاً لمنهج البحث الذي اختاره ، وتبنى آخرون الرأيَ الثانيَ ؛ وفقاً لمناهج أخرى أدَّت به إلى ذلك .

ويذهب باحثنا العلامة الشيخ عبد الهادي الفضلي ؛ وفقاً لما هو سائدٌ لدى الإمامية ، إلى أنها أصلٌ . حيث يقرر ذلك ضمن سرده لأصول الدين بأنها أربعة :

1 – الألوهية

2 – النبوة

3 – الإمامة

4 – المعاد )([15]).

ويؤكد ذلك بأقوال بعض مشاهير العلماء من الشيعة .

إلا أننا نجده يحصرها في موضع آخر([16]) في ثلاثة ، هي :

  • التوحيد
  • والنبوة
  • والمعاد .

لتكون ( الإمامة ) أصلاً من أصول المذهب .

ولا نستبعد أن يكون الثاني تفسيراً للأول ، إذا تبيّن لنا الآثار المترتبة على من أنكر أصلاً من أصول الدين ، حيث يحكم بكفره ، والشيعة الإمامية لا يرون كفرَ المسلمين ممن خالفهم في القول بالإمامة بالنحو الذي يقولون به ، بل يحكمون بإسلامهم([17]).

أجل ، القول بالإمامة أصل من أصول الإيمان ، و ( يظهر أثر التدين بالإمامة في منازل القرب والكرامة يوم القيامة فالمسلمون بأجمعهم سواء ، وبعضهم لبعض أكفاء ، وأما في الآخرة فلا شك أن المسلمين تتفاوت درجاتهم ومنازلهم حسب نياتهم وأعمالهم )([18]).

 

المطلب الرابع : مسائل الإمامة

* المسألة الأولى : تعريف الإمامة وضرورتها

الإمام هو : مَن يجب على الناس اتباعه والاقتداء به .

وهذا التعريف ليس بعيداً عن ما تقرره اللغة من معنى ( أمّ ، يؤم ، ائتمام …) حيث يكون ثمة هدف وغاية يتحرك نحوها الإنسان .

ولكي نتبين ضرورة الإمامة نذكر عدداً من المقدمات لتنتهي بنا إلى النتيجة:

1 – لا يخفى أن الله سبحانه خلق الإنسان لغاية سجلها في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات : 56] ، الذي يعني أن غير المتعبد لله ،  أي غير الخاضع له ، سيكون سائراً في غير الوجهة التي حددها الله له.

2 – الدين يعني الاستسلام التام لله بالجوارح والجوانح ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة : 208] ، وهذا يعني : شموليةَ المعارف الدينية مستوعبة الخالق والكون والإنسان والحياة ، وشموليةَ القانون / الشريعة لجميع جوانب الحياة [19].

3 – تتوزع معارف الدين على الغيب والشهود ، وآيات القرآن على تنزيل وتأويل . ولا يدعي جمهور المسلمين أن لهم إحاطةً بجميع ذلك .

4 – على المسلم أن يطبق سلوكه في السر والعلن ، وفي الجانب الشخصي والعام … على وفق ما تقرره له القوانين الإلهية . وهذا يتم على نحوين :

(‌أ)        التعليم من النبي (ص) باعتباره الموحى إليه والخبير بجميع جوانب الشريعة ومعارف الدين  ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران : 164].

(‌ب)   السلوك العملي من خلال معايشتهم لمن هو قدوة لهم .

5 – حاجة المسلمين للمعارف الدينية لا تقف عند جيل من الناس ولا في زمن من الأزمان ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر : 15].

ونخلص من هذه المقدمات إلى أن هناك ترابطاً وثيقاً بين الدين وبين (الإمام) الذي يتمثل في شخص النبي (ص) في زمانه ، وفي الإمام ، مورد البحث، في حال غيابه عن الناس .

وهذا التحليل لضرورة الإمامة قد لا نجده بهذا الترتيب فيما دوّنه الشيخ الفضلي ، إلا أننا نتصيده من مجموع ما كتب في مشكلة البحث ، ونتعرّف عليه من المصادر التي يحيل إليها سماحته في العديد من بحوثه اطمئنانًا بمؤلفيها وقناعة ً بمضمونها إجمالاً .

* المسألة الثانية : الإمامة دين أم سياسة

تختلف الرؤية الإمامية لـ(الإمامة) عن رؤية سائر المذاهب الإسلامية ، وتلتقي معها في بعض الجوانب الرؤية الإسماعيلية ، ولذلك اختلفت المعالجة بين الفرقاء .

فالشيعة الإمامية يرون فيها امتداداً للنبوة[20]، على المستويين الروحي والسياسي[21] بغير وحي طبعاً[22] . ولذلك يختلف الإمامية عن أهل السنة في الصلاحيات التي أعطيت لـ(الإمام) عند الشيعة حيث تتمثل في حفظ الشريعة وتبيان الأحكام على ما هي عليه دون تصرف ولا تبديل بقصد أو بغير قصد ، فيما هي لا تتجاوز المنصب السياسي عند السنة . وشتان بين التفسيرين وتبعاً لذلك بين الصفات اللازم توفرها في الإمام عند هؤلاء عنها عند أولئك . وسيتضح القول بشكل أجلى عند التعرض لعصمة الإمام في مسألة مستقلة . ولعل إدراج الإمامية للمسألة ضمن الأصول (أصول الدين) وإدراج السنة لها ضمن (فروع الدين) يجلي طبيعة الفرق بين أسلوب المعالجة عند الفريقين ، وكذلك سينعكس هذا الاختلاف على آليات البحث وأدواته.

* المسألة الثالثة : الإمامة والنصب الإلهي

تختلف مدرسة أهل البيت (ع) وتبعاً لهم الإمامية عن المدارس الإسلامية الأخرى في قراءة الدين ، حيث تلتزم مدرسة أهل البيت صرامة متناهية في التعبد بما يدخل ضمن نطاق الأحكام الشرعية على مستوى المفاهيم والمعارف ، وعلى مستوى الأحكام والقوانين العملية في العبادات والمعاملات . وبنوا ذلك على أساس أن القرآن ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت : 42] ، وعلى أساس أنه (تبيان) لكل شيء[23] ، فلن نعدم معالجةً لأي مشكلة ومعضلة حتى أرش الخدش ، كما روي على لسان الإمام الصادق (عليه السلام)[24].

وانطلاقاً من ذلك وباعتبار أن (الإمامة) منصب ديني بحت ، بل هي أعلى منصب بعد النبوة ، سيكون حكمها حكم سائر المسائل الدينية التي لا مجال فيها للاجتهاد وضعاً ولا رفعاً فحلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، وقال تعالى :﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [النساء : 65 ] . بل لا يعقل أن تُهمَل ، كما سيتبين عند سردنا لأدلة إمامة أهل البيت (ع) . والشاهد القرآني على النصب الإلهي للإمام قول الله تعالى :﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة : 124]، وسنوضحه فيما يأتي .

انطلاقاً من كل ذلك أصر الشيعة على لزوم نصب الإمام من قِبَل الله تعالى، لاعتبارين أساسيين :

الأول : أنه حكم شرعي ، كما تقدم ، والأحكام الشرعية ، التي هي ألطاف إلهية ألزم نفسه بها تجاه الناس ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام : 54] ، من المهمات الإلهية التي لا يتصدى لها إلا الله سبحانه[25].

الثاني : عدم قدرة الناس ، مهما كانت مستوياتهم العلمية ، على تحديد الشخص الصالح والكفء لمقام الإمامة ، وكما أن الناس عاجزون عن تسمية الأنبياء كذلك هم عاجزون عن تسمية الإمام[26].

ونحن حينما نتحدث عن (الإمامة) باعتبارها حكماً شرعياًّ ، فلن تكون مسألة تاريخيةً لا ينبغي الوقوف عندها والإصرار على تبني موقف واضح منها ، لما يمكن أن يترتب على ذلك من مضاعفات سلبية . بل سيكون حالها حال أي حكم شرعي مارست الأمة تعطيله لهذا السبب أو ذاك ، وسيكون للموقف منها قبولاً أو رفضاً نتائج جد خطيرة على مستوى الفكر والسلوك معاً .

*  المسألة الرابعة : الإمامة والشورى

طُرِحت قضية الشورى من زاويتين :

1. الأولى : أنها طريق لتسمية الإمام .

2. الثانية : أنها أسلوب في إدارة شؤون الأمة .

وعلى كثرة تداولها على المستوى النظري إلا أنها _ كما يرى العلامة الفضلي _ لم تُمارَس تطبيقياًّ[27].

أما الزاوية الأولى فقد تبين في المسألتين السابقتين أن (الإمامة) تدخل ضمن أحكام الدين وبالتالي فلا مجال لأن يتدخل فها البشر . كما سيتبين أن الله عز اسمه ورسوله (ص) بيّنا الموقفَ الشرعيَّ الواضحَ بالنسبة لـ(الإمامة)، وذاك يدحض دعوى ، قوليةً أو فعليةً ، أن ثمة فراغاً دعت الحاجة إلى ملئه باجتهاد من الأمة ، ولو بواسطة الشورى التي لم تتحقق في السقيفة حينما اجتمع (بعض الصحابة) دون إجماع حقيقي ولا تشاور تام فهذه (الشورى لم تتحقق تاريخياًّ فلم يكن في السقيفة اجتماع شامل ، أو على الأقل وافٍ ، لمن له حق المشورة وإبداء الرأي ممن يُعرفون بأهل الحل والعقد . ولم يدر بين من حضروا مشاورة ومفاوضة ومداولة في ترشيح من يستحقها من المسلمين) [28].

وأما الزاوية الثانية فلا يستطيع أحدٌ أن يدعي أن الشورى كانت أسلوب حكم معتمد بنحو مطلق وشامل في جميع العصور ، بل ولا في أي عصر[29].

فما هو السر – إذن – في هذا الإصرار على مبدأ الشورى ؟

يجيب العلامة الفضلي بقوله : استمرت تغذية هذا المبدأ سياسياًّ … لئلا يكون من علي وآل علي شيء يعترضه أو يعارضه)[30].

ويقرأ فيما جاء على لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) من الاحتجاج بالشورى كمبدأٍ ، أنه لا يتجاوز (الإلزام) في مقام المخاصمة والجدال ، حيث (أراد إلزام معاوية بما ألزم المسلمون به أنفسهم آنذاك)[31].

*  المسألة الخامسة : عصمة الإمام

تعدّ مسألة (العصمة) من المسائل الشائكة والعويصة ، إذ تصر مدرسة الإمامية على اتصاف الأئمة بها ، وتعتبرها من المسلَّمات ، فيما يتندر عليهم ، بسبب القول بها ، مخالفوهم . هذا مع اتفاق المسلمين جميعاً عليها كمبدأ ديني ، حيث ذهب الجميع على ضرورة اتصاف الأنبياء (ع) بها ، على اختلاف في التفاصيل بينهم[32].

والسائد في المذهب الإمامي – وهو مذهب العلامة الفضلي –  أن للعصمة ثلاثة مجالات :

الأول : العصمة من المعاصي ، صغيرها وكبيرها ، منذ الولادة حتى آخر العمر.

الثاني : العصمة من الخطأ .

الثالث : العصمة من السهو والنسيان .

والأول عصمة سلوكية يقتضيها عاملان :

1. صيانة الدين من أن يقع في التلاعب والتشويه المقصود.

2. بعث الاطمئنان في نفوس المدعوين إلى الدين والمؤمنين به في شخص المعصوم، لتتهيأ الأرضية لامتثال أوامره واجتناب نواهيه …

والثاني والثالث عصمة فكرية يقتضيها :

1. الحرص على صون الدين وسلامته من التشويه غير المقصود، تحقيقاً للطف الرباني بالعباد.

2. توفير أسباب الاطمئنان لدى المدعوين بخلو الدين من أي شائبة ليست من جوهر الدين، دعا إلى الوقوع فيها ما يقع عموم الناس فيه من حيث لا يشعرون ، حيث يخطئون وينسون …

وقد التزموا بها في الإمام انطلاقاً من تفسيرهم لـ(الإمامة) التي تتجاوز المنصب السياسي لتشمل حفظ الدين والشريعة[33] ، بالمستوى الذي يحتمل أي خطأ مهما صغر ، وهذا يتوقف على أن افتراض العصمة ، بمستوياتها الثلاثة ، حيث نضمن حينئذ الفاعلية الحقيقية للدور الوظيفي المنوط بـ(الإمام) ، كما هو الحال في النبي ، بفارق أن النبي يوحى له دون الإمام الذي هو عالم بمعطيات القرآن الكريم والسنة الشريفة ومؤدياتهما كما جاءت من عند الله تعالى[34].

فقد قال الشيخ أبوجعفر الطوسي (ره) : الإمام لا يكون عالماً بشيء من الأحكام إلا من جهة الرسول وأخذ ذلك من جهته)[35]، وهو ما أبانه الأئمة (ع) في ما روي عنهم في المجامع الحديثية ، من قبيل ما رواه جابر قال :

قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : إذا حدثتني بحديث ما سنده لي ؟

فقال : حدثني أبي عن جده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبريل عن الله عز وجلّ .

وكل ما أحدثك بهذا الإسناد)[36].

– أدلة العصمة :

(1) قاعدة اللطف

يعرّف اللطفُ بأنه : ما يقرِّب العبدَ إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية[37].

وأما كيف يكون الإمام مصداقاً لـ(اللطف) فيتمثل في : أننا نفترض في الإنسان الحاجة إلى إمامٍ يتولى دور القيادة الاجتماعية والسياسية والثقافية والتربوية، بحيث يشكل دوره صمام الأمان على جميع تلك الأصعدة ليقوم الناس بالقسط وتستقر في أوساطهم العدالة وينتفي بتطبيق القانون الظلم وفروعه وتثمر شجرة الحق وتنمو أغصانها ، ويتوفر بذلك أهم عوامل الصلاح في النفس الإنسانية[38].

ويتبنى العلامة الفضلي قياساً منطقياًّ لإثبات العصمة يبتني على مقدمٍ وتالٍ باطلٍ يستلزم بطلانَ المقدم ، ومفاده :

المقدم : أن الملزِم والموجِب لنصب الإمام من الله تعالى هو احتمال وقوع الخطأ من المكلفين ، وهو ما تعلقت الإرادة الإلهية بنفيه لطفاً بالعباد .

التالي : إذا افترضنا احتمال وقوع الإمام في الخطأ فإن الواجب أن يُعيَّن له إمامٌ يجنبه الخطأ ، ليتحقق الغرض من نصبه . فإن افترضنا أن هذا الإمام المعيّن هو الإمام فهو المطلوب ، وإلا لزم تعيين إمام له ، وهكذا ، لنقع في ما يرفضه المنطق والعقل وهو التسلسل .

وإذا كان التالي باطلاً فالمقدم مثله ، فتجب العصمة في الإمام ، وهو المطلوب[39].

(2) القرآن

ويمكن أن يُستدل على العصمة بآيات القرآن الكريم ، ويمكن أن يورد -شاهداً على ذلك – آيتان :

الآية الأولى : ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾[40].

(وتقرير الاستدلال بالآية الكريمة :

1 – أن الآية صريحة في أن الإمامة لا تكون لأحد إلا بجعل من الله تعالى ، أي بتعيين منه .

2 – أن الإمامة عهد الله ، أي مسؤوليةٌ إلهيةٌ مهمةٌ فلا تُناط إلا بمن لديه أهليةُ القيامِ بها ، وهي أن يكون غير َظالمٍ لنفسه أو لغيره ، وهذا لا يتحقق إلا إذا كان الإمامُ معصوماً ، لأن العصمة مَلَكةُ ثابتةٌ ودائمةٌ ، وبعكسها العدالةُ فإنها قابلةٌ للحدوث والتجدد [كما هي قابلة للزوال]، ففي حالة زوالها تزول معها الإمامة ، لأن المشروط عدم عند عدم شرطه )[41].

الآية الثانية : ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾[42].

(بتقريب أن المراد من الرجس الذنوب ، ذلك أن الرجس : القذر حساًّ أو معنى ، ويطلق على ما يستقبح في الشرع والفِطَر السليمة .

والمراد بـ (أهل البيت) : علي وفاطمة والحسن والحسين ، لحديث الكساء المروي عن أم سلمة ( رض ) : قالت : نزلت هذه الآية في بيتي ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ وفي البيت سبعة : جبريل وميكائيل وعلي وفاطمة والحسن والحسين ( رض ) وأنا على باب البيت . قلت : ألست من أهل البيت ؟ قال ( ص ) : إنك إلى خير ، إنك من أزواج النبي، ولحديث المباهلة المروي في صحيح مسلم 7 / 121 : لما نزلت هذه الآية (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم . . . ) دعا رسول الله علياًّ وفاطمةَ وحسناً وحسيناً ، فقال : اللهم هؤلاء أهلي .

وبوحدة الملاك تعم الآية بمؤداها سائر الأئمة التسعة )[43].

ولئلا يطول بنا المقام سنحيل شطراً من الاستدلال على العصمة إلى حين استعراضنا للأدلة الناصّة على شخوص الأئمة ، لأنها تثبت وتشخص الإمامَ أولاً ، وتحدد شروطَهُ ثانياً ، وتبيِّن صلاحياتِهِ ثالثاً .

ونلحظ هنا كيف أن العلامة الفضلي التزم بصرامة ما رسمه لنفسه من منهج وصفه بـ(التكاملي) و(التقاء العقل بالنقل) .

*  المسألة السادسة : الأدلة على الأئمة

– أولاً : الأدلة من القرآن

لا يختلف المسلمون في حجية القرآن الكريم[44] ، هذا ما يؤكده العلامة الفضلي ، وينقل في ذلك تعبيراً لأستاذه الشيخ محمد رضا المظفر في كتابه (أصول الفقه)[45] ونصّه : إن القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة لنبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والموجود بأيدي الناس بين الدفتين هو الكتاب المنزل إلى الرسول بالحق ، لا ريب فيه هدى ورحمة ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[46]. فهو – إذاً – الحجة القاطعة بيننا وبينه تعالى ، التي لا شك ولا ريب فيها، وهو المصدر الأول لأحكام الشريعة الإسلامية بما تضمنته آياته من بيان ما شرعه الله للبشر . وأما ما سواه من سنة أو إجماع أو عقل فإليه ينتهي ومن منبعه يستقي )[47].

والآيات التي سيقت لإثبات إمامة أهل البيت (عليهم السلام) عديدة ، يتم الاستدلال بها عبر مرحلتين :

1. المرحلة الأولى : استكشاف معنى الآية . وإثبات أن المراد منها الإمامة الإلهية .

2. المرحلة الثانية : إثبات أن المراد بها خصوص أهل البيت (ع) .

وبالجمع بين الأمرين يثبت أن (الإمامة الإلهية) لا تصح لغير أهل البيت(ع).

أما الآيات فمنها :

1 – قوله تعالى :﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب : 33].

وتقريب الاستدلال بها على إثبات إمامتهم (عليهم السلام) أن يقال :

(‌أ) إن الآية تنفي عن أهل البيت (ع) الرجس ، وهو كل قذر وعيب ، بإرادة إلهية لا تقبل التخلف ، وذلك يعني عصمتهم .

(‌ب) أن عصمة أهل البيت (ع) يعني عدم جواز مخالفتهم ومعارضتهم ، فيما يأمرون وينهون .

(‌ج)  لا يجب طاعة أحد بنحو مطلق إلا الإمام .

والنتيجة : أنهم أئمة واجبو الطاعة ، إذ لا نريد من (الإمام) إلا ذلك .

وأما أن المراد بأهل البيت (ع) علي فاطمة وذريتهما المعصومون فلِما تظافر بل تواتر بمناسبة نزول الآية .

يقول العلامة الفضلي حول هذه الآية الشريفة : … المراد من الرجس الذنوب ، ذلك أن الرجس : القذر حساًّ أو معنى ، ويطلق على ما يستقبح في الشرع والفطر السليمة . والمراد بـ(أهل البيت) : علي وفاطمة والحسن والحسين:

– لحديث الكساء المروي عن أم سلمة (رض) : قالت : نزلت هذه الآية في بيتي ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ وفي البيت سبعة : جبريل وميكائيل وعلي وفاطمة والحسن والحسين ( رض ) وأنا على باب البيت . قلت : ألست من أهل البيت ؟ قال ( ص ) : إنك إلى خير ، إنك من أزواج النبي .

– ولحديث المباهلة المروي في صحيح مسلم 7 / 121 : لما نزلت هذه الآية ( فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم . . . ) دعا رسول الله عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ، فقال : اللهم هؤلاء أهلي .

وبوحدة الملاك تعم الآية بمؤداها سائر الأئمة التسعة )[48].

2 – قوله تعالى :﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة : 55].

وتقريب الاستدلال بها أن يقال :

(‌أ) أن الآية نزلت بمناسبة تصدق علي بن أبي طالب (عليه السلام) بخاتمه في الصلاة ، بشهادة علماء أسباب النزول والمفسرين .

(‌ب) أنها تثبت للمتصدق الولاية على المؤمنين لله أولاً ولرسوله ثانياً ولهذا المتصدق ثالثاً .

(‌ج) أن الولاية هنا يراد بها الولاية الخاصة بمعنى الوجوب الطاعة ، وهو معنى الإمامة ، لأن الولاية الثابتة للمؤمن على المؤمن ليست مرادة قطعاً في الآية الشريفة .

والنتيجة أن (علياًّ) هو الإمام من بين سائر الصحابة ، وهو المطلوب .

3 – قوله تعالى :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء : 59].

وتقريب الاستدلال بها أن يقال :

1. إن الآية الشريفة أمرت بطاعة أولي الأمر إلى جانب الأمر بطاعة الله تعالى وطاعة الرسول (ص) .

2. إنها أطلقت الأمر في وجوب طاعة ولاة الأمر كما أطلق في وجوب طاعة الرسول (ص) .

3. لا يعقل أن يكون الأمر بالطاعة مطلقاً إلا أن يكون المأمور بطاعته معصوماً ، وإلا شمل إيجاب طاعته على الإطلاق بإيجاب طاعته في أمره بالمعصية على حد أمره بالمعصية ، وهو باطل غير معقول .

4. لا معنى للقول بعصمة ولاة الأمر إلا أن يقال بـ(الإمامة الإلهية) التي ذهبت إليها مدرسة أهل البيت (ع) .

– ثانياً : الأدلة من السنة

(1) حديث الثقلين

وهو من أهم الأحاديث التي عني بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واهتم بها اهتماماً كبيراً . وذلك لما يتضمنه هذا الحديث من معنى حيوي على مستوى الدين والأمة[49].

ويتجلى هذا الاهتمام في أن النبي (ص) كرر مضمونه في مواطن عدة ، منها : بعد انصرافه من الطائف ، وفي مسجد الخيف ، وفي حجة الوداع بعرفة ، وفي غدير خم عندما عهِد للإمام علي بالخلافة ، ومن على منبره في مسجده الشريف بالمدينة ، وفي حجرته المباركة قبل وفاته)[50]. ويستند العلامة الفضلي في إثبات هذا الأمر إلى نص هام جاء في الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي[51].

وكان لابد من التأكد من صدوره وإثباته على مسلك من لا يقر بالإمامة الإلهية خصوصاً ، فأورد العلامة الفضلي ، في سياق استدلاله بالحديث على الإمامة ، العديد من الشواهد على ذلك ، وأحال في ذلك إلى إحقاق الحق وملحقاته الذي جاء فيه أن الحديث ذكر في مائة وستين مؤلفاً من جملتها معظم كتب الصحاح وجوامع الحديث ومصنفات الرجال والتاريخ المعروفة[52].

1.1. نص الحديث :

ورد الحديث بألفاظ متفاوتة ، دون إخلال بالمعنى ، فمن ذلك ما رواه الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين بإسناده عن زيد بن أرقم (رضي الله عنه) ، قال : لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقممن ، فقال : كأني دعيت فأجبت ، وإني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله وعترتي أهل بيتي . فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض .

ثم قال : إن الله مولاي وأنا ولي كل مؤمن ، ثم أخذ بيد علي عليه السلام فقال : من كنت وليه فهذا وليه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه )([53]).

1.2. صحة الحديث :

ويؤكد العلامة الفضلي على صحة الحديث مورِداً شواهد على ذلك من أئمة الحديث في الوسط السني خصوصاً ؛ كالترمذي[54] وابن حنبل([55])، والحاكم النيسابوري([56])والطبراني ، والطحاوي ، والذهبي([57]) ، من القدامي .

ومن المعاصرين الشيخ ناصر الدين الألباني([58]).

1.3. مفاد الحديث :

يقف العلامة الفضلي عند الحديث ليستخرج منه عدداً من الفوائد والنتائج ، تصب جميعها في تأكيد صلاحيته للاستناد إليه في إثبات إمامة أهل البيت عليهم السلام) ، وتتمثل في التالي :

1. اقتران العترة الطاهرة بالقرآن الكريم ، بمعنى فهمهم له وعلمهم به .

2. إن التمسك بالكتاب والعترة معاً يعصم من الضلالة ، بمعنى أن الالتزام بهدي القرآن وبهدي السنة المأخوذة عن طريق أهل البيت تعطي الإنسان المناعة من أن يقع في الضلالة .

3. حرمة التقدم عليهم ، وحرمة الابتعاد عنهم ، لأن ذلك يوقع في التهلكة والهلاك .

وفحوى هذا : حصر الإمامة فيهم وقصرها عليهم .

4. عدم افتراق العترة عن الكتاب ، بمعنى ارتباطهم به علماً وعملاً ، واستمرار سنتهم _ لأنها سنة النبي _ عديلة القرآن إلى يوم القيامة….

5. أعلمية أهل البيت ، وليس هناك ما هو أحوط للدين وأعذر في الموقف يوم الحساب من اتباع الأعلم ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [يونس : 35][59]

(2) حديث السفينة

ومن الأحاديث التي استند إليها العلامة الفضلي للاستدلال على إمامة أهل البيت (ع) ما أطلق عليه (حديث السفينة) .

2.1. نص الحديث :

روى الحاكم في المستدرك بإسناده عن حنش الكناني ، قال : سمعتُ أبا ذر _ رضي الله عنه _ يقول ، وهو آخذٌ بباب الكعبة ، : من عرفني فأنا من عرفني ، ومن أنكرني فأنا أبو ذر ، سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه ، من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق)[60]، ورواه باختلاف يسير الطبراني في المعجم الكبير والمعجم الصغير وابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *