مع بدايةِ كلِّ عامٍ هجريٍّ يحيي المؤمنون من أتباع أهل البيت (ع) مراسمَ عاشوراء ، وإلى جانب ذلك يتجدد السؤالُ – بحسنِ نيةٍ من فريقٍ ، وبسوءِ نيةٍ من فريقٍ آخر – عن سببِ هذا الإصرار على إحياءِ ذكرى عاشوراء .
ونقول : إن الشيعة ليسوا مبتدعين في ذلك ، بل متبعين !
ذلك أن خاتم النبيين (ص) سبقهم إلى ذلك ، قبل أن تقع فاجعة كربلاء!
وقد تتساءل : إذا كان هذا ما حصل فلمَ هذا الإنكار من قِبَل البعض على مشروعيته ، وعلى وقوعه ؟
وقد تقول – ثانياً – : لعل ما تستندون إليه في سبق الرسول (ص) إلى ذلك هو أحاديث شيعية لا يصح الاحتجاج بها على مخالفيهم !
وأقول جواباً عن السؤال الأول والتساؤل الثاني :
لا بد من التمييز بين إثباتِ مشروعيةِ فعلِك في مقام التعبدِ بينك وبين ربك ، وبين إقناعِ مخالفيك . ففي المقام الأول لا يلزمك أن تستند في مشروعيةِ أمرٍ إلا إلى ما يكون حجةً بينك وبين ربك ، ولست ملزَماً – هنا – بإيراد ما يكون حجةً ملزِمةً عند مَن يخالفك . أما في المقام الثاني فإنه لا يصح – منهجياًّ – أن تستدل إلا بما يكون حجةً عند مخالفيك .
لذلك ، يتبين لنا الخلط في ما يقوم به مخالفو الشيعة عندما يوردون حججاً علينا ممن لا نقبله ولا نحتج به ، كما يتبين لنا الخلط المماثل إذا أردنا الاحتجاج بما لا يقبلون .
ومن أجل الفرار من هذا الخلط المنهجي نورد نصين من غير مصادر الشيعة ؛ لنؤكد مشروعيةَ ما نفعل ؛ وفقاً للمعايير العلمية الصحيحة المقبولة عند الآخر .
1 – فقد روي في المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي [3/ 200] ، عن أنس بن مالك قال: استأذن ملك القطر ربه أن يزور النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم فأذن له ؛ وكان في يوم أم سلمة فقال النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم :يا أم سلمة احفظي علينا الباب لا يدخل علينا أحد.
قال: بينما هي على الباب إذ جاء الحسين بن علي فاقتحم الباب فجعل النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم يلتزمه ويقبله.
فقال الملك: أتحبه؟ قال: نعم.
قال: إن أمتك ستقتله إن شئت أريتك المكان الذي تقتله فيه.
قال: نعم .
قال: فقبض قبضةً من المكان الذي قُتِل به فأراه ؛ فجاء سهلةً أو تراباً أحمر ، فأخذته أم سلمة فجعلته في ثوبها.
قال ثابت: فكنا نقول: إنها كربلاء ) .
2 – فيه أيضاً ، عن عبد الله بن نجي، عن أبيه: أنه سار مع علي ؛ وكان صاحب مطهرته؛ فلما حاذى نينوى ؛ وهو منطلق إلى صفين ، فنادى علي: اصبر أبا عبد الله.
اصبر أبا عبد الله.
بشط الفرات.
قلت: وماذا يا أبا عبد الله؟ قال: دخلت على النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم ذات يوم وعيناه تفيضان قلت : يا نبي الله ، أغضبك أحد ، ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: “بل قام من عندي جبريل قبل، فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات” ، قال: فقال : ” هل لك إلى أن أُشِمَّكَ من تربته؟ ” ، قال : قلت : نعم ، فمد يده، فقبض قبضة من تراب،فأعطانيها، فلم أملك عينيَّ أن فاضتا )
فهذان النصان يشكلان وثيقتين تاريخيتين على أن أول مَن أحيى فاجعة كربلاء – في الإسلام – هو شخص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أولاً ، وخليفته الإمام علي (عليه السلام) ثانياً .
ويجب التنبيه إلى : أن النصوصَ بهذا المضمون كثيرةٌ جداً ؛ لا يتسع المقامُ لإيرادِها جميعاً . ويكفينا ما أوردناه ؛ للإشارة إلى أن ما يقوم به أتباعُ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) ليس هو من مبتدعاتهم ؛ كما يحلو للبعض أن يسوقه ! وإنما هم يقومون بذلك اتباعاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ امتثالاً لما جاء في القرآن الكريم من قول الله تعالى ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب/ 21] ، ورغبةً منهم في الحظوة بمحبة الله تعالى ؛ وفقاً لما جاء في القرآن الكريم ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران/ 31].
ونستنتج مما مرَّ :
أولاً : أن إحياء مراسم عاشوراء فعل مشروعٌ لا غبار عليه .
ثانياً : أن الرسول وعترته ( صلوات الله عليه وعليهم ) كانوا سباقين إلى ذلك ، وأنهم فعلوا ذلك قبل الفاجعة بعقود من الزمن . ولعل ذلك وقع منهم لتأكيد هذه المشروعية إلى جانب أمورٍ أخر .
ثالثاً : أن ما فعله الإمام الحسين ( عليه السلام ) كان عملاً مشروعاً في نفسه ، وأن الانحيازَ إليه ؛ في عصره وبعد عصره ، أمرٌ مطلوبٌ ؛ بقرينةِ ذكر هذه الفاجعةِ ، والتفجع منها قبل وقوعها .
رابعاً : أن الأصالةَ الإسلاميةَ لهذا الدين إنما تتجسَّد في شخصِ الإمامِ الحسينِ (عليه السلام) ، وفي أفعالِهِ وأقوالِهِ ؛ تبعاً لما قاله رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : حسين مني، وأنا من حسينٍ، أحب اللهُ من أحب حسيناً، حسين سبطٌ من الأسباط ) [رواه ابن ماجه في سننه] .