نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «شهر رمضان، وصناعة الإنسان» يوم الجمعة 24 شعبان 1444 هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.
بسم اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدِ الخلقِ وأشرفِ الأنبياءِ والمرسلين محمدٍ بنِ عبدِ اللهِ وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.
عبادَ اللهِ! أوصيكم – ونفسي – بتقوى اللهِ؛ فإنها – كما يقول أميرُ المؤمنين (عليه السلام) “حقُّ اللهِ عليكم، والموجِبةُ على اللهِ حقَّكم، وأن تستعينوا عليها باللهِ، وتستعينوا بها على اللهِ، فإن التقوى في اليومِ الحرزُ والجُنةُ، وفي غدٍ الطريقُ إلى الجنةِ، مسلكُها واضحٌ، وسالكُها رابحٌ، ومستودعُها حافظٌ، لم تبرح عارضةً نفسَها على الأممِ الماضين والغابرين لحاجتِهم إليها غداً، إذا أعاد اللهُ ما أبدى، وأخذ ما أعطى، وسأل عما أسدى“ [نهج البلاغة، الخطبة 191].
عبادَ الله! ها نحن نودع شهرَ شعبانَ بكلِّ ما تضمنه من خيرٍ وإحسانٍ، لنستقبلَ بعد أيامٍ – إن شاء اللهُ – شهرَ رمضانَ، وما وعَد اللهُ عبادَهُ فيه من رحمةٍ واسعةٍ.
لذلك، فإن من الحكمةِ أن يُعدَّ كلُّ واحدٍ منا نفسَهُ لنيلِ نصيبِهِ فيه لدنياه وآخرتِهِ.
وعنوانُ حديثي سيكونُ (شهر رمضان، وصناعة الإنسان)
***
إخواني الكرامَ، أخواتي الكريماتِ:
إن مما أتحفنا به اللهُ عزَّ وجلَّ عن شهرِ رمضانَ تحفتين اثنتين:
أما التحفةُ الأولى: فهي قولُهُ تعالى ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 185].
وقد بيَّن اللهُ تعالى في الآيةِ ما لشهرِ رمضانَ من خصوصيةٍ وبركةٍ صار فيها ظرفاً زمانيّاً اختصه اللهُ عزَّ وجلَّ من بين الشهورِ بإنزالِ القرآنِ فيه؛ لينتقل الناسُ – جميعُ الناسِ – به، وبما احتواه، من الظلماتِ إلى النورِ، وليكونَ هذا القرآنُ بيناتٍ من الهدى والفرقان يفصلون به بين الحقِّ وأهلِهِ، والباطل وأهلِهِ، وبين الخيرِ وفاعليه، والشرِّ وفاعليه، وبين الإسلامِ والمنتمين إليه والكفرِ ومريديه.
ثم بيَّن اللهُ تعالى – في الآيةِ نفسِها – أن ما كلَّف به مَن شهد منا شهرَ رمضانَ بصيامِهِ؛ من غيرِ المعذورين – إنما هو في سياقِ ما أراده ويريده لنا من اليسرِ، وأنه – للطفِهِ وواسعِ رحمتِهِ – لا يريد بنا ولا لنا العسرَ، وإنما يريد أن نكبِّرَهُ على ما هدانا، فالهدايةُ نعمةٌ تستدعي ذكرَ اللهِ وتكبيرَهُ، وإنما يريد لنا أن نشكرَهُ، وشكرُ اللهِ لطفٌ بنا، وسببٌ أكيدٌ لنجاتِنا.
فهو – إذن – شهرٌ كريمٌ، وتحفةٌ من ربٍّ عظيمٍ.
***
وأما التحفةُ الثانيةُ: فهي قولَهُ تعالى ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].
وقد بيَّن اللهُ تعالى – في هذه الآيةِ – ما يقتضيه إيمانُ المؤمنِ من التزامٍ، فالإيمانُ – إخواني وأخواتي – ليس شعاراً لا مضمونَ له!
وهذا الالتزامُ الإيمانيُّ هو امتثالُ ما كتبه اللهُ، وفرضه، على المؤمنين من الصيامِ، الذي هو الكفُّ والإمساكُ عن الأكلِ والشربِ وبعضِ المشتهَياتِ الأخرى من الفجرِ إلى الغروبِ، منبهاً إلى أن هذا التكليفَ سبق أن خوطب به مَن سبقنا من الأممِ، فهو تكليفٌ دينيٌّ قديمٌ، ورحمةٌ شاملةٌ.
ثم بيَّن سبحانه الحكمةَ من وراءِ هذا التكليفِ، وهو تحصيلُ التقوى، بمعنى أن نعمةَ الصيامِ، هذه، تعين على تحقيقِ هذا الهدفِ السامي، الذي ينشده كلُّ عاقلٍ، والمؤمنُ سيدُ العقلاءِ.
فالتقوى زادٌ، ونعم الزادِ، فقد قال تعالى ﴿.. وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197].
ثم إن التقوى – أيها المؤمنون والمؤمناتُ – سببٌ للكرامةِ، وليس فينا مَن لا يريد الكرامةَ، بل أعلى مراتبِها، والكرامةُ مشروطةٌ بالتقوى. فقد قال تعالى ﴿.. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ..﴾ [الحجرات: 13].
***
وإن مما أتحفنا به رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا البابِ هو ما روي عنه؛ من خطبةٍ ألقاها في آخرِ جمعةٍ من شهرِ شعبانَ، بيَّن فيها خصائصَ هذا الشهرِ ومزاياه.
وقد تضمنت هذه الخطبةُ النبويةُ الشريفةُ الكثيرَ والكثيرَ من المسائلِ التي ينبغي أن تُقرأ مراتٍ ومراتٍ، وأن تكونَ نصبَ العينِ دائماً؛ لئلا يَحرم الإنسانُ نفسَه من علومِها، ومعارفِها، ولطائفِها.
***
وإن مما أتحفنا به أئمةُ الهدى من أهلِ البيتِ (عليهما السلام) ما رواه الشيخُ الصدوقُ، بسندِهِ، في غيرِ كتابٍ، عن ابنِ شاذانَ، عن الإمامِ الرضا (عليه السلام)، من حديثٍ استعرض فيه الحكمَ المنشودةَ من وراء الصومِ، حيث قال (عليه السلام) :
“إنما أُمروا بالصومِ لكي يعرفوا ألَمَ الجوعِ والعطشِ، فيستدلوا على فقرِ الآخرةِ، وليكونَ الصائمُ خاشعاً ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً عارفاً صابراً على ما أصابه من الجوعِ والعطشِ؛ فيستوجبَ الثوابَ، مع ما فيه من الإمساكِ [الانكسارِ] عن الشهواتِ، ويكونَ ذلك واعظاً لهم في العاجلِ، ورايضاً لهم على أداءِ ما كلَّفهم، ودليلاً لهم في الآجلِ [الأجر]، وليعرفوا شدةَ مبلغِ ذلك على أهلِ الفقرِ والمسكنةِ في الدنيا، فيؤدوا إليهم ما افتَرض [ما فرَض] اللهُ لهم في أموالِهِم“ [وسائل الشيعة في تحصيل مسائل الشريعة 10/9، الحديث (12701)].
فنحن – إذن – بين يديْ مهمةٍ تربويةٍ عظيمةٍ للصائمِ نفسِه، ولمجتمعِهِ.
فالصائمُ المتبصرُ بحقيقةِ الصومِ، والمتيقِظُ لحِكمِ التشريعِ، والمدركُ لحكمةِ الآمرِ بالتكليفِ سبحانه، ينتقل – كما يقولُ الإمامُ الرضا (عليه السلام) – باستدلالِهِ العقلِيِّ، ومن خلال صومِهِ، ومن خلالِ إحساسِهِ فيه بجوعِهِ وعطشِهِ، إلى اليقينِ بأنه فقيرٌ إلى اللهِ تعالى الذي خلقه في هذه الدنيا؛ ليقضيَ سُنيَّاتٍ قليلةً من عمره في عالم الدنيا؛ لينتقلَ بعدها إلى الآخرةِ التي لا بد له من أن يتزود لها بالعملِ الصالحِ، والصيامُ عملٌ صالحٌ.
فالصيام – إذن – منبهٌ للصائمِ إلى أن ثمةَ آمراً، وهو اللهُ، ومأموراً وهو الإنسانُ، وأمراً، وهو الصومُ، ليومٍ يُثاب فيه على فعلِهِ، أو يعاقبُ – نعوذُ باللهِ – على تركِهِ، وهو الآخرةُ.
وهذه حكمةٌ بالغةٌ لِمن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيدٌ.
ثم إن الإمامَ الرضا (عليه السلام) ذكر حكمةً أخرى للصيامِ، وهي التذللُ والانكسارُ بين يدي اللهِ، المشفوعُ بعلوِّ الهمةِ والسعيِ الحثيثِ لنيلِ الأجرِ وتحملِ الصعابِ في سبيلِ ذلك، مبنياً على أساسِ المعرفةِ بما يريده اللهُ تعالى من عبادِهِ.
وهذا ما أراده (عليه السلام) بقولِهِ “وليكون الصائمُ خاشعاً ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً عارفاً صابراً على ما أصابه من الجوعِ والعطشِ؛ فيستوجبَ الثوابَ“.
لينتقلَ بعد ذلك إلى حكمةٍ نبيلةٍ ثالثةٍ، وهي أن يملكَ الإنسانُ القدرةَ على التحكمِ في ذاتِهِ، فلا يسترسلَ وراء غرائزِهِ دون وعيٍ وتبصرٍ.
وذلك أن اللهَ تعالى خلق الإنسانَ وركَّبه من جسدٍ فيه غرائزُ تدعوه إلى تلبيتِها، وعقلٍ يدعوه إلى حسنِ الاختيارِ، فإن هو استرسل وراء غرائزِهِ وشهواتِهِ توارى عقلُهُ، وضعف تأثيرُهُ، وتسافل اختيارُهُ، وصار في معرضِ الخطرِ الداهمِ، فـ“أصلُ الإنسانِ” – كما قال الإمامُ عليٌّ (عليه السلام) – “لبُّهُ، وعقلُهُ دينُهُ“ [بحار الأنوار 1/82].
وهذا ما أراده الإمامُ الرضا (عليه السلام) بقولِهِ “مع ما فيه – أي الصيامِ – من الإمساكِ [الانكسارِ] عن الشهواتِ، ويكون ذلك واعظاً لهم في العاجلِ“.
ثم إن الإمامَ الرضا (عليه السلام) نبَّه – في حديثِهِ الشريفِ هذا – إلى حكمةٍ رابعةٍ للصيام، وهي أنه يعين الإنسانَ الصائمَ على رياضةِ نفسِهِ، وتدريبِها، على امتثالِ ما كلَّف اللهُ تعالى عبادَهُ به، فإن جميعَ التكاليفِ تتطلب عزماً وإرادةً يضعف عنها كثيرٌ من الناسِ، وإذا كان النسيانُ آفةَ العلمِ، فإن الخورَ في الإرادةِ آفةُ العملِ.
وهذا ما أراده الإمامُ (عليه السلام) بقولِهِ “ورايضاً لهم على أداءِ ما كلَّفهم“.
لينتقلَ بعد ذلك إلى حكمةٍ خامسةٍ للصيامِ، بيَّنها بقولِهِ “ودليلاً لهم في الآجلِ [الأجرِ]”.
وهذا يعني أن الصائمَ إنما يؤدي الصيامَ لأنه يعرفَ أن الدنيا ليست آخرَ المطافِ، بل أولَهُ، وأن ثمةَ عالماً آخرَ هو عالمُ البقاءِ فيه الثوابُ للمطيعين، والعقابُ للعاصين، فهو يصومُ لأنه يطلبُ الأجرَ ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ﴾ [الشعراء: 88-91].
وأما الحكمةُ السادسةُ للصيامِ، فقد بيَّنها الإمامُ الرضا (عليه السلام) بقولِهِ “وليعرفوا شدةَ مبلغِ ذلك على أهلِ الفقرِ والمسكنةِ في الدنيا فيؤدوا إليهم ما افترض [ما فرض] اللهُ لهم في أموالِهِم“.
وهذا يعني أن الصائمَ الواعيَ لفلسفةِ الصومِ لا يمكن إلا أن يكونَ مرهفَ الحسِّ تجاه المحتاجين من أهلِ العوزِ والحاجةِ، الذين لا يخلو مجتمعٌ منهم، ولا يمكن إلا أن يكونَ ساعياً في تقديمِ العونِ لهم، فها هو يستشعر بصومِهِ جوعَهم وعطشَهم، لهذا فإنه يمدُّ يدَ العونِ لهم، وبهذا يكون شهرُ رمضانَ شهرَ الإنسانِ الإنسانِ والإنسانيةِ الساميةِ.
وما فرضه اللهُ تعالى على الناسِ في هذا البابِ يشمل الإنفاقَ الواجبَ والمستحبَّ.
فأيها المؤمنون نحن – إذن – بين يدي شهرٍ كريمٍ، كلفنا به ربٌّ كريمٌ؛ رجاءَ أن نكونَ وإياكم بصيامِ هذا الشهرِ وقيامِهِ وتلاوةِ كتابِ اللهِ، وعمارةِ بيوتِهِ، وتجنبِ المعاصي والملهياتِ والتفاهاتِ فيه، من أهلِ الكرامةِ عنده.
جعلنا اللهُ وإياكم ممن يستمعون القولَ فيتبعون أحسنَهُ.
اللهم صلِّ على محمدٍ وآلِ محمدٍ.
اللهم كن لوليك الحجةِ بنِ الحسنِ، في هذه الساعةِ، وفي كلِّ ساعةٍ، وليّاً، وحافظاً، وقائداً، وناصراً، ودليلاً، وعيناً؛ حتى تسكنَهُ أرضَك طوعا، وتمتعَهُ فيها طويلاً.
اللهم انصر الإسلامَ والمسلمين، واخذل الكفارَ والمنافقين. اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وأغنِ فقراءَنا، وأصلِح ما فسَد من أمرِ دينِنا ودنيانا، ولا تُخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا، يا كريمُ.
وصلى اللهُ على سيدِنا ونبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.