لا تخفى ضرورة تحديد المصطلحات والمفاهيم للوصول إلى تبني موقف فكري على ضوء القواعد المنهجية العلمية، فلا يمكن التعامل مع قضية يفهمها طرف بنحو يختلف عما يفهمها الطرف الآخر، وإن اتفقا على المصطلح.
ومن تلك المسائل الشائكة، على مستوى المضمون والخلفيات والنتائج، مسألة «حقوق الإنسان» ومسألة «الإرهاب» ومسألة «الحرية». وسنعالج في هذه السطور المسألة الأخيرة أعني «الحرية» في ضوء المنطق القرآني .
لماذا الحرية؟ ولماذا القرآن؟ لأن «الحرية» اليوم تعد من الشعارات التي يتبارى الناس جميعاً في رفعها والمناداة بها، وباعتبارنا مسلمين فإن السؤال أو الأسئلة المنطقية التي ستثور هي: أين هي «الحرية» في المنطق القرآني، هل هي مبدأ إسلامي مقبول؟ وما هو معناها؟ وما هي حدودها؟ وما هي مجالاتها؟ كما وإن الحكمة، التي هي وضع الأمور في محلها، تفرض أن نعتمد، كمسلمين، في المعرفة المصادرَ الصحيحةَ والحقةَ، والقرآن من تلك المصادر بل هو في طليعتها، وهو فوق ذلك يشكل ميزاناً «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» (الإسراء:9).
تعريف الحرية: نعني بـ «الحرية» أن يتمتع الإنسان بالقدرة على فعل ما يشاء، أو قول ما يشاء. وبعبارة أخرى: أن يكون سيد نفسه. والحرية – بهذا المعنى – لا شك أنها معنى مقدس ومرغوب. لذلك تبارى الناس – كما تقدم – في تبنيها وحمايتها والدعوة لها. لا يستثنى من ذلك مشرقي ولا مغربي، ولا عالم ولا جاهل، ولا رفيع ولا وضيع، ولا فرد ولا جماعة… وإن اختلفت أساليب هؤلاء وأولئك في التعبير عن موقف كل منهم. وما أروع ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): «لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرّاً».
ملاحظتان منهجيتان:
قبل الدخول في صلب الحديث لابد من الإشارة إلى ملاحظتين، يبدو لي أنهما مسلَّمتان لدى الجميع:
1 – لا إطلاق في الحرية، ليس هناك من ينادي بـ «الحرية» على إطلاقها دون قيد ولا شرط، لأن مثل هذه الدعوة لا يقبلها المنطق، ولا تقرها الأعراف، ولا يساعد عليها الواقع الموضوعي؟ فالإنسان – في ذاته – محكومٌ ومغلوبٌ، أي أنه ليس حراً، في أن يختار ممن يولد ومتى يولد وما هو شكله وما طوله وعرضه؟، كما وأن الإنسان ليس حرّاً أمام القوانين الكونية حتى يتلاعب بالقوانين الطبيعية، فهي تغلبه ولا يغلبها.
أضف إلى ذلك، أن الإنسان، في سلوكه، محكومٌ مغلوبٌ أيضاً، ففي الأخلاق والقوانين التشريعية ليس بالضرورة ما يكون مقبولاً وسائداً عند طرف يكون كذلك عند طرف آخر، وما هو مقبولٌ عند فريق فليس للإنسان أن يرفضه ويتحرر منه بنحو مطلق، لأن من الطبيعي أن حريته تنتهي عند حدود حقوق الآخرين فـ «لست وحدك في العالم». وحسناً قال أحدهم: إن ما يدعوه البعض حرية يدعوه البعض الآخر إباحية. ويشير القرآن الكريم إلى نُزوعٍ مذمومٍ لدى الإنسان للتفلُّت من القيم والقوانين، قال تعالى: «بَلْ يُرِيدُ الأِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ» (القيامة:5).
2 – كيف تقيد الحريات؟ انطلاقاً مما تقدم لابد أولاً من أن تحدد الأصولُ والأسسُ التي على ضوئها تُقيَّد الحرية هنا وهناك، فيباح شيء في موردٍ ويحظر شيء آخر في موردٍ ثانٍ.
وباعتبار أننا مسلمون نعتمد القرآن الكريم مصدراً نستلهم منه تشخيص الحق من الباطل والخطأ من الصواب، فإننا إذا عُدنا إلى هذا المصدر، وهو الذي «لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» (فصلت:42)، سنجده طافحاً بنصوص صريحة وظاهرة تؤكد أن الإنسان لا ينبغي بل لا يليق، وفوق هذا وذاك يجب أن يكون سيد نفسه، وهو ما نعنيه بـ «الحرية»، والقيد الوحيد الذي يقبله القرآن لتحديد حرية الإنسان هو «الحق)».
وهذا (الحق)، في أصله وما يتفرع منه، الذي يقبله القرآن مقيِّداً لحرية الإنسان هو: سلسلة من الواقعيات لا يمكن للعقل البشري أن يرفضها لو استوعبها، وسنستعرض – فيما يأتي – بعض هذه الواقعيات القرآنية التي تمثل أصولاً ومبادئ تحكم «الحرية الإنسانية». الأصل الأول: كرامة الإنسان في القرآن، إن التجوال بين الآيات البينات يكشف حقيقةً لا تقبل الإخفاء ولا الاختفاء، وتتمثل هذه الحقيقة في أن «الإنسان» هو محور مخلوقات الله تعالى: فهو الـ «الخليفة» من قبل الله سبحانه، قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً» (البقرة:30). الإنسان هو الحامل للأمانة العظمى «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً» (الأحزاب:72). والإنسان هو المسخر له ما في السموات والأرض، قال تعالى: «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ» (لقمان:20). وهو المسبَغ عليه النعم الكثيرة والخطيرة قال تعالى: «وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً» (لقمان:20). وأخيراً، هو المكرَّم والمفضَّل، قال تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً» (الإسراء:70).
والمنطق القرآني نفسه يكشف إلى ذلك، بل يؤكد، حقيقةً جليةً في نفسها، مفادها أن هذا (الإنسان) مخلوق مستخلف، مستأمَن، منعَم عليه، مكرَّم، أي أنه طرف في معادلة هو الأضعف فيها فيما يشكل الطرف الآخر، وهو الله الذي هو خالقه ومستخلفه ومستأمِنه والمنعم عليه والمكرِّم له، ومن ثمَّ فإن العلاقة بينهما هي علاقة الحاكم/ الله من طرف، والمحكوم/ الإنسان من طرف آخر.
ومنطق الأشياء – كما لا يخفى على عاقل – يفرض أن تكون لكل من الطرفين حدودٌ، وأن العلاقة بينهما ستكون محكومةً بالحقوق والواجبات من كل طرف تجاه الآخر. مع بقاء قانون الفوقية للحاكم والدونية للمحكوم، دون أن يعني أن تلك الفوقية وهذه الدونية تسمح للحاكم أن يَظلم وللمحكوم أن يُظلم. قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» (فاطر:15).
فالإنسانية معنى سامٍ في القرآن الكريم له متطلباته ومقتضياته، لا يمكن إدراكه لمن لم ينهل من القرآن نفسه «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ» (الأعراف:178).
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 1568 – الخميس 21 ديسمبر 2006م الموافق 30 ذي القعدة 1427هـ