قد لا نجد إنساناً سوياًّ، إلا وهو مهموم بنفسه وبما يدور حوله من أشكال التخلف الفكري، وانعكاساته الحادة على السلوك الفردي والعام. حتى ان أمة يفترض أنها تملك جميع مقومات النهوض، لا يبدو أن ثمة مؤشراتٍ ملموسةً تبعث على الأمل بيقظةٍ من سباتها الذي هيمن عليها.
فأينما جُلت بناظريك يميناً أو شمالاً فلن تجد إلا ما يبعث على التشاؤم، فلا سياستنا سياسة، ولا ثقافتنا ثقافة، ولا اجتماعنا اجتماع، بل نحن أحزاب خاوية، ودويلات متخلفة، وجماعات متناحرة…
والأسى كل الأسى علمُنا جميعاً بأن الإصلاح «ممكن)» والنهوض «متاح» والتنمية «ميسورة». ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وقد نتجرأ ونقول: لن يحصل. فتسأل سراً وعلانيةً: أين الخلل؟
أزعم، أن تقصيرنا في البحث عن جذور «الأمراض»، وانشغالنا بـ «الأعراض»، يتحمل قسطاً وافراً من المشكلة. فليس عصياً على المرضى أن يدركوا أن تخفيف درجة الحرارة، ليس علاجاً، وأن من الضروري أن نعرف أسبابها.
إذا رجعنا إلى الوراء، سنجد أن العرب حينما بُعث فيهم رسول الله (ص) بـ»الإسلام»، ودعاهم إلى «القرآن»، كانوا على شر دين وفي شر دار. وبلغ بهم التخلف الفكري حداً خرجوا معه من الإنسانية حتى أن بعضهم كان يئد «البنات» في ظاهرة تنم عن مستوى التخلف والوحشية في آن «وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ» (التكوير: 8 – 9). وكان غالبيتهم يعيش على السلب والنهب، بما يستلزمه من القتال والقتل…
وبين هذا وذاك كان من الضروري السعي إلى الإصلاح الفكري، لأن «الفكر» هو حجر الزاوية في السلوك الإنساني، ومنه تتولد الرغبة أو العزوف، لتنتج بعده الإرادة، ثم تجسيدها في القول والفعل.
ولما تمثله «مكة» من رمزية دينية يستقي العرب منها فكرهم، وما يسوغ وما لا يسوغ، باعتبارها محج أبيهم (إبراهيم) وموطن أبيهم إسماعيل (ع)، كان من الطبيعي أن تكون، جغرافياً، منطلق الدعوة. ومن الطبيعي، أيضاً، أن يكون أبناء إبراهيم (ع) هم حملة الدعوة وحماتها. وهذا يتسق مع الواقع الاجتماعي، وقبل ذلك مع الواقع الخلقي والاصطفائي. قال تعالى: «إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ» (آل عمران: 33)، وقال تعالى: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ» (العنكبوت: 27).
والحكمة الربانية تقتضي أن يدار الشأن الإنساني من قِبَله بما يتوافق ويتناغم والمخطط العام للكون. وذلك يقتضي تزويد الإنسان، في كل زمان ومكان، بما يعينه على سلوك الدرب «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ» (الفاتحة: 6). لأن في هذا الطريق مسالك وعرة يعجز الإنسان الضعيف، بطبعه، أن يهتدي أن يسلكها من دون دليلٍ «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» (البقرة: 151).
وإننا عندما نسبر أغوار الرسالات السماوية نجدها، منذ أول رسالة إلى خاتمتها، تلتقي عند التركيز على الرؤية الكونية، أعني: «التحليل الفلسفي». فنبدأ بالسؤال: من أين جئتُ؟ ومن أتى بي؟ ولأي غرض؟ وما هي رسالتي في الحياة؟
وتنتقل، أعني الديانات، للحديث، بعد ذلك، عن: ما يجب وما لا يجب؟ وما ينبغي وما لا ينبغي؟ وكيف؟ ومتى؟
وتغطي الأسئلة والإجابات مختلف جوانب الحياة من دون استثناء، والعمل وفق تلك الإجابات هو التدين بالدين، وهو التعبد به. وليس الإنسان مختاراً في أن يؤمن أو لا يؤمن بهذه القناعات أو غيرها، فلا نجد إنساناً يعيش بغير دين. وهو إن رفض ديناً فسيتدين بآخر. وإنما يختلف الناس في أديانهم، بين من يختار الإسلام فيكون «مسلماً»، أو اليهودية فيكون «يهودياً»، أو النصرانية فيكون «نصرانياً»، أو الإلحاد فيكون «ملحداً»… وهذه حقيقة يؤكدها الواقع وينطلق منها القرآن الكريم «مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ» (يوسف: 40).
فالناس جميعاً «يعبدون»، والفرق بين هؤلاء وأولئك أن منهم من هو مصيبٌ (مهتدٍ)، ومنهم من هو مخطئ (ضال). فالمصيب هو من سار على الدرب الصحيح ووافق اختيارُهُ الحقيقةَ، أما المخطئ فهو من لم يفعل ذلك لدواعٍ نفسية، أو اجتماعية… أما الواقع فهو أن هؤلاء وأولئك مخلوقون ومملوكون مربوبون «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ» (الطور: 35).
وإذا كانوا كذلك فإن المنطق والعلم والموضوعية كل ذلك يقتضي أن ينصاع الجميع للحق الذي هو الله «فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ» (يونس: 32). والانصياع له يعني: التدين بدينه، أي أن يسلِّم الناس بأوامره «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ» (آل عمران: 19). وأي اختيار آخر سيكون غير صحيح ومؤدياً إلى الخسران «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» (آل عمران: 85).
ولذلك جاء الأمر من الله تعالى بعبادته، بمعنى أن طبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوق تستلزم أمراً من الله/ المعبود، وامتثالاً من الإنسان/ العبد «أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» (يوسف: 40).
ومن نافلة القول التأكيد أن ساحتنا الفكرية، في العالم الإسلامي والعربي، تشتعل بـ «الكثير» من المعارك الساخنة بين فريقين، يصنف أحدهما إسلامياً والآخر علمانياً، في تفاصيل ومفردات أرى أنها تدخل في سياق معالجة «الأعراض» دون «الأمراض».
فـ «الإسلاميون» يصرون على أن الإسلام شرعة الله ومنهاجه، الذي يخطئ الناس اختيار ما عداه. والحق يبقى حقاً لا يضره تقادم الزمن ولا تُخلِقه الأيام. وينبري «العلمانيون» للرد عليهم بـ «الماضوية» و «الظلامية» و «المثالية»… وأننا أمام استحقاقات اقتصادية وثقافية وسياسية واجتماعية… لا نجد لديكم، أيها الإسلاميون، حلولاً تتسم بالواقعية و «العصرنة». كما أن علاقاتكم ببعضكم، فضلاً عن علاقتكم بمخالفيكم، لا تسمح لنا بتمكينكم أو السماح لكم بذلك. فأنتم مذاهب وفرق فالـ «سنة» لا يقبلون «الشيعة»، والشيعة لا تقبلون السنة… وأي إسلام تريدون أن يطبق علينا هل هو إسلام «المحدثين» أم «الفقهاء» أم «العرفاء» أم «الفلاسفة»… والذي أحسبه أن كلا الفريقين أصاب في جانب وأخطأ في جانب.
فالإسلاميون، على اختلاف تياراتهم ومذاهبهم، يصيبون حينما يؤكدون أن الإسلام وحده الكفيل بأن يكون الشرعة والمنهاج الذي تصلح به أحوالنا في شتى مناحي الحياة، ويخطئون حينما يقفزون على واقع الاختلاف الإسلامي على مستويات عدة. إلا أنه اختلافٌ مشروعٌ نسبياًّ، وهو بحاجة إلى تحاور في أسلوب التعامل معه بموضوعية وعلمية. وقد عرضنا لذلك في مقالات «تعالوا إلى كلمة سواء» التي نشرت في هذه الصحيفة الموقرة.
وأما العلمانيون، على اختلاف مشاربهم، فهم مصيبون حينما يؤكدون على الواقعية، وضرورة نبذ المثالية، وأن لا مكان للحلول الخيالية التي لا تنطلق من هموم الواقع. ولكنهم يخطئون حينما يصنفون «آراء الإسلاميين» جميعاً على أنها كذلك. فـ»الماضوية» ليست عيباً إلا حينما تكون باطلاً. فـ(1+1= 2) قضية «ماضوية» وقضية «هذا العالم لم يكن ثم كان» ماضوية أيضاً، ولكن لأنهم محقُّون فيها فلا عيب – إذاً – في ماضويتهما. ويخطئ العلمانيون حينما يصنفون جميع آراء الإسلاميين بأنها «مثالية» غير قابلة للتطبيق، على الأرض لأنها ليست «الفردوس».
ولكن العلمانيين مصيبون أننا أمام واقع «جديد» يحتاج إلى حلول «عصرية» تتناسب و «متغيرات العالم»… وأن التحديات التي نواجهها تتطلب «اجتهاداً جديداً»، ننعتق فيه من اجتهادات الرجال الأوائل. ولكن:
أعتقد أن القراءة المعمقة لكلا الدعويين تفترض من هؤلاء وأولئك أن يتجاوزوا حدود الشخصنة والتيارية وتصفية الحسابات والنظر إلى مصلحة الأمة التي تنشد حلولاً حقيقية وجذرية لمشكلاتها، من دون التأثر بأمم ومجتمعات لها خصوصياتها الأيديولوجية والاجتماعية والتاريخية، بل وحتى البيئية.
إن مصلحة الأمة تتطلب من الجميع نشدان «الحق» في أصوله وتفاصيله. وأي سعي إلى التنمية، وهي مطلب الجميع، لا ينطلق من رؤية فلسفية واضحة وسليمة، فإن مآلها إلى فشل.
ومشكلتنا، بل البشرية أجمع، ليست في الاقتصاد ولا في السياسة ولا في الاجتماع، وإنما في:
1- الثقافة التي يخزنها في عقولهم السياسيون والاقتصاديون والاجتماعيون.
2- الصدق مع النفس.
فكم من إسلامي أعلن الإسلام منهجاً فإذا به يملأ الأرض إرهاباً وفساداً، لا فرق بين أن يكون المعارضون إسلاميين أو علمانيين لأن الجميع، باختصار «مرتدون».
وكم من علماني ثنيت له وسادة الحكم فإذا بعالمنا الإسلامي والعربي، الذي «كان» في الأمس القريب امبراطوريةً عظمى، يصبح دويلات أصغر قدراً من أن تجتمع على «اجتماع عاجل للقادة» فضلاً عن «عملة نقدية».
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 1533 – الخميس 16 نوفمبر 2006م الموافق 24 شوال 1427هـ