«من أهداف الهجرة النبوية وبركاتها (١)» – يوم الجمعة ٣ ربيع الأول ١٤٤٤ هـ
نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «من أهداف الهجرة النبوية وبركاتها (١)» يوم الجمعة ٣ ربيع الأول ١٤٤٤ هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي،
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله،
في هذا الشهر هاجر النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وهو حدث عظيم ينبغي أن يُستذكر لأن له أهدافاً وله بركات. ولأهميته، لمّا استشير أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام عن التوقيت المناسب لبداية التأريخ، أشار عليهم بأن يكون مبدأ هجرة النبي صلى الله عليه وآله- والذي هو صادف وهذا الشهر- وإن قدموه وجعلوا بداية السنة في شهر محرم.
النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليُقدم على فعل من الأفعال كبُر أم صغُر إلا انطلاقاً مما يوحيه الله -عز وجل- إليه، وهذا قانون ثابتٌ في جميع حياة النبي ولا يستثنى من ذلك شيء. سيكون الحديث في محطتين: المحطة الأولى هذا الأسبوع ونؤجل الحديث عن المحطة الثانية إلى الأسبوع الآتي.
هناك أربعة مبادئ ينبغي أن تلاحظ في هذا الجانب، مما دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يترك وطنه- التي هي مكة- وقد كانت أحب البلدان إليه وأقدسها عنده ولم يكن الأمر هيناً له كما ليس الأمر هيناً على أي شخص أن يُضطر إلى أن يترك أهله وموطنه الذي نشأ فيه وولد فيه وأنس به خصوصاً إذا كان هذا الوطن والموطن مكة المكرمة. لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد أوذي حتى قال {ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت} أو {مثل ما أوذيت}. لم يجد بُداً إلا أن يهاجر بأمر من الله -عز وجل- حيث لم يعد البقاء في مكة المكرمة ممكناً له.
على المستوى الدعوي لم يكن الأمر متاحاً بعد أن توفي عمه أبو طالب -عليه السلام- وزوجته الكريمة خديجة عليها أفضل الصلاة والسلام، لم يكن على المستوى الدعوي قادراً على ذلك بل حتى على المستوى الشخصي حتى أنهم اجتمعت كلمتهم على أن يغتالوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحادثة التي صادفت للهجرة.
فهناك جُرمٌ قُرشي عظيم وكبير حصل في زمن النبي حتى أن الله -عز وجل- سجله في القرآن الكريم فقال
في سورة الأنفال [30] {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} أي يحبسوك يمسكوك {أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} يعني يخرجونك ينفونك بطريقة مذلة بحيث لا تتمكن أن تدعو إلى الله {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
طبعاً قريش لم تمكر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا المكر الشديد إلا وقد كانت تحسب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يملك أي أسباب من أسباب النجاح إلا إذا كان في مكة حيث ينتمي قبلياً إلى قريش وجغرافياً إلى مكة المكرمة لكنّ الله -عز وجل- مكرَ له فاستبدله قوماً خيراً من قومه، وبقعة تمكن أن يدعو إلى الله -عز وجل- فيها بأفضل مما كان يدعو في مكة المكرمة. فإذاً، أولئك مكروا والله مكر في مقابل مكرهم والله خير الماكرين لأن الله -عز وجل- غالبٌ على أمره.
الأمر الثاني – هو ما أشرنا إليه – هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أقواله وفي أفعاله وفي جميع تصرفاته ما كان ليصدر عن أمرٍ شخصيٍ عن هوى شخصي لقد اندكت إرادته وهواه في مراد الله -عز وجل- ومحبوبه. فما يحبه الله، يحبه رسول الله، وما ينطق به رسول الله، يجب أن يعلم أنه من عند الله -عز وجل- دون نقاش. ولذلك من الخطأ الذي كان يصدر من بعض من كان مع النبي حينما يستفسر عن النبي هذا منك أو من الله! لا ينبغي أن يقال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل هذا القول لأن النبي اندك شخصياً في دعوته وفي دينه بحيث صار شرعاً مجسداً هو الشرع الناطق. مثل ما أن القرآن هو القرآن الصامت، النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قرآناً ناطقاً. لاحظوا ماذا يقول الله -عز وجل- في غير آية كما في سورة الأنعام في سياق مجموعة من الآيات {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ} يعني لا ينبغي أن تتصوروا أني أُشرع من عندي أقول من عندي آمر أنهى ليس هذا الأمر مربوطاً بي. وإنما هو بالله -عز وجل- وهجرته أيضا كانت من هذا القبيل.
الأمر الثالث هو أن الله -سبحانه وتعالى- وعد نبيه ووعد المؤمنين وعداً عظيماً وهي أن دعوتهم هذه ودينهم هذا ستكون له الغلبة وستكون يدهم العليا إن نصروا الله -عز وجل- فقال: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد – 7] في آيات عديدة في سورة الأنفال مثلاً يقول -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال – 29] خطاب للمؤمنين ووعد منه، ووعد الله -عز وجل- صادق ومنجز. ما الذي أراده الله -عز وجل- من الناس؟ وأن خاطبهم بالذين آمنوا، طلب منهم مطلباً واحداً، مطلب كلي ينبغي أن يكون مهيمناً على سلوك الإنسان في صغائر الأمور وكبائرها وهي تقوى الله {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} الفرقان يعني الفيصل بين الحق والباطل، بين المؤمن والكافر، بين المجتمع الضعيف والمجتمع القوي. الله -سبحانه وتعالى- يجعل هؤلاء ممثلين له في الأرض، نائبين عنه في الأرض، كما أن الله قاهر وغالب، يكون هؤلاء أيضا غالبين وقاهرين.
يقول أيضاً -سبحانه وتعالى- وهذه هي الآية التي قرأها رسول الله فأعمى الله -عز وجل- أبصار وبصائر الذين أحاطوا بمنزله الشريف حتى لم يبصروه وهو يخرج. كانوا يرون لكن النبي أفلت من بين أيديهم بحيث أعمى الله -عز وجل- أبصارهم . ماذا قال؟ قرأ قوله -عز وجل- بداية سورة يس إلى قوله: {وَجَعَلْنَا مِنۢ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَٰهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس – 9] لمّا قرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية ويروى أنه حث عليهم التراب -يعني رمى عليهم شيئاً من التراب- لم يتمكن أحدٌ منهم أن يرى النبي وهو يمر من بين أيديهم. أحاطوا بمنزله مع ذلك لم يروا وقد كان أوصى وأمر أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام أن يبيت في فراشه حتى ظنوا أنه هو. وقد روي أنهم رموه بالحجارة حتى يتثبتوا أنه موجود وكان يتضور، ألقى الله -عز وجل- عليه شبه النبي بحيث لم يتمكنوا من أن يميزوه حتى خرج النبي صلى الله عليه وآله.
ومن وعود الله -عز وجل- ما قال في سورة المجادِلة: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَٰٓئِكَ فِى ٱلْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} فالآية ماذا تعطي؟ تعطي وعد أن الذين يحادون رسول الله يعني يعادونه في أعلى مراتب العدوانية، الله -عز وجل- يقول سيجعل هؤلاء في الأذلين عبر التاريخ. ولا ينبغي أن يتصور الإنسان أن المسألة مربوطة بفترة دون فترة أخرى. في جميع مراحل التاريخ كل من أراد برسول صلى الله عليه وآله سوءاً واستهزاءاً تكون الغلبة لله ولرسوله يعلو ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومبدأه وينخفض أولئك. الشذوذات البسيطة لا يقاس عليها نتكلم عن المسار العام. المسار العام هو هذه الاية التي تؤكد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وعلى رأس هؤلاء النبيين الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
ما هو المطلوب حتى يكون الناس من المتقين؟ المطلوب هو التفاعل الحسن والتفاعل الإيجابي والاندكاك في هذا الدين لأن الله -عز وجل- لا يقبل إلا دينه {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران – 19]. ويقول في آية أخرى {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران – 85].
يقول -عز وجل-: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا} يعني تعرضاً تنصرف عن رسول الله {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۚ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)} [سورة النور].
ما الذي يريده الإنسان في هذه الدنيا وعلى مدى مدى حياته كلها؟ يريد السعادة يريد الخير، يريد الراحة، كل هذا الله -سبحانه وتعالى- يقول لن يناله الانسان حق النيل إلا بأن يكون من المهتدين. ولن تكون هناك هداية إلا في ظل دين الله، ودين الله الذي جاء مطلوب منه أن يُطاع الذي يمثله وهو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأن في طاعته طاعة الله -عز وجل-. مثل هذا الإنسان فرداً أو جماعة سيكون من المرحومين -اللهم لا يحرمنا رحمته-.
وفي الرواية ورد عن جابر بن عبدالله الانصاري، تعرفون أن أهل مكة لما عاندوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد كان النبي صلوات الله وسلامه عليه يعرض نفسه ودعوته ودينه على القبائل في المواسم، مواسم الحج، مواسم العمرة، يذهب إليهم في سوق عكاظ، في سوق ذي المجاز، في سوق مجنة، المناطق التي يجتمع فيها العرب. كان بعضهم يشترط عليه يقول لو أننا آمنا بك وتابعناك وبايعناك هل لنا الأمر من بعدك؟ قال: «الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء» بعضهم كان يشترط وبعضهم ما كان يقرأ المسألة من زاوية المصلحة والمنفعة وإنما من مصلحة الحق أين هو؟ والباطل أين هو؟ فإذا تبين أنه على باطل والشرك والكفر باطل انحاز إلى مشروع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا تبعاً لنية الإنسان، لميوله، أفقه الواسع أو الضيق.
يروى عن جابر أنه قال في حديث: قال مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة عشر سنين -هي أزيد قليلاً- يتبع الناس في منازلهم بعكاظ -السوق المعروف- ومجنة. هذه مناطق ليست بعيدة عن مكة، الناس بعد الحج أو بعد العمرة يجتمعون في هذه المناطق ويتبادلون التجارة والبيع والشراء اجتماعات والأدب والشعر وأمثال ذلك. «وفي المواسم بمنى يقول من يؤويني؟» من يؤويني النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يقصد أنه هو على المستوى الشخصي مستضعف وإنما يريد أن يقول من هو على استعداد أن يتقبل المشروع ويتبنى هذا المشروع بحيث يدفع الثمن في مقابل هذا الإيواء. وإلا فإن النبي على المستوى الشخصي ما كان يستطيع في مكة المكرمة أحد أن يلحق به الأذى وقد انحازت إليه بنو هاشم. بنو هاشم كانوا يكفونه مؤنة هؤلاء مؤمنهم وكافرهم، كما يقول أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام. المؤمن بحساب الإيمان وغير المؤمن بحساب العصبية القبلية. ما كان هناك أحد يستطيع أن يلحق الأذى إلا لما وصل الأمر إلى حد أن القريشيين حاولوا أن يستضعفوا رسول الله وتآمروا عليه في المرحلة الأخيرة التي اضطرته إلى أن يهاجر.
فقال يقول: «من يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة» هذا هو وعد رسول الله صلى الله عليه وآله والنبي لا يعود إلا بإذن من الله، وبأمر من الله لأن الجنة لا يملكها هو مباشرة. نعم الله -سبحانه وتعالى- جعل طاعة النبي طاعته والاستجابة له استجابة له. فمن أطاع رسول الله كما في هذه الرواية يعده بالجنة. ماذا كانت قريش تقول للذين يتواصل معهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
يقولون: «احذر غلام قريش لا يفتنك ويمشي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع» يعني يستهزئون بالنبي يلحقون الأذى المعنوي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول: «فرحل إليه منا» أي من أهل المدينة من الأوس والخزرج «سبعون رجلاً حتى قدموا عليه في الموسم» طبعاً هذه الرحلة الثانية لأن الموسم الأسبق كان العدد أقل كان عددهم أقل من هذا «فواعدناه في شعب العقبة فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين حتى توافينا فقلنا يا رسول الله على من نبايعك؟» يعني لو آمنا بك وتابعناك ما المطلوب منا؟ قال: «تبايعونني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم وعلى أن تنصروني فتمنعوني» في رواية أخرى «تمنعونني وتمنع أهل بيتي» لأن هذا كان شرطاً، النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يمنعوا نساءه وأهل بيته مثلاً ما يمنعون نساءهم وأهل وأهل بيتهم. «فتمنعوني إذا قدمت عليكم ما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم». هذه قرينة على أن النبي كان يطالب منهم الحماية له كما يحمي هؤلاء الذين يعرضون البيعة عليه أنفسهم وأزواجهم. قال: «ولكم الجنة» هذا هو وعد النبي. فإذا ما هو المطلوب لما انتقل النبي بفعل الهجرة هذه؟ هو أن ينتقل الإنسان من حالة المعصية لله إلى حالة الطاعة لله. من المسار الذي يؤدي به إلى النار إلى المسار الذي يؤدي به إلى الجنة. فعل الهجرة كان يرمز إلى هذا المعنى. وإلا فإن الذي في مكة يستطيع أن ينال الجنة! والذي في المدينة يستطيع أن ينال الجنة! بل نال بعض من في مناطق أخرى الجنة! فيما كفر من هؤلاء وهؤلاء من حرموا أن يكونوا من أهل الجنة.
ولذلك فإن عنوان الهجرة كان عنوان مقدس وصار سمة المهاجرين في مقابل سمة الأنصار سمة تشريف. لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن فتح مكة قال لا هجرة بعد الفتح. يعني الذين أسلموا من أهل مكة وجاءوا إلى المدينة بعد أن فتح الله مكة المكرمة، عنوان المهاجرين السابق لأنه كان يجب على المسلمين أن يهاجر الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن فتحت مكة تحققت المرحلة الأهم من إقامة المشروع، مشروع المجتمع المسلم. ما عاد يجب على الناس أن يهاجروا إلى المدينة المنورة لأن الإسلام سيصل إليهم فقال لا هجرة بعد الفتح لا داع لأن يفتخر أحدٌ بأنه من المهاجرين على شخص آخر ليس من المهاجرين. وصحح لهم المفهوم، فقال في بعض ما روي عنه صلى الله عليه وآله: «المهاجر من هجر السيئات».
ولذلك نجد في الروايات المروية عنه وعن أهل بيته لاحقا كانوا يتحدثون، يعني مثلاً من الكبائر يقولون التعرب بعد الهجرة. الآن لا يوجد أحد يهاجر من منطقة إلى منطقة من أجل الدين بين المسلمين.
ماذا يقصد بالتعرب؟ يعني أن يخرج الإنسان من بلده الذي يتمكن أن يتفقه فيه ويتدين لله فيه إلى منطقة أخرى لا يستطيع أن يتدين لله -عز وجل- فيها. يضطر إلى أن يرتكب المعصية، يضطر إلى أن يخرج عن طاعة الله -عز وجل-، هذا يقال له تعرض بعد الهجرة، هذا لا يجوز! يجب على الإنسان أن يختار في منطقة سكناه، المنطقة التي يتمكن فيها أن يكون عبداً صالحاً لله -عز وجل-. طبعاً المضايقات الأخرى هذه تحصل للمهاجرين وللأنصار لمن جاء بعدهم ولمن سبقهم، هذا أمر طبيعي صراع الحق والباطل. لكن أن يكون الإنسان في منطقة يسلب منه الاختيار على الطاعة هذا أمرٌ يقال له التعرض بعد الهجرة وهو أمر محرم بل من الكبائر. لو لم يكن هناك هجرة بهذا المعنى الواسع ما صح أن يستعمل مثل هذا اللقب وله شواهد كثيرة.
فإذاً هذه هي الدوافع وأهم الدوافع التي دعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يهاجر. المحافظة على دعوته وعلى دين على نفسه من أجل دعوته ومن أجل أن يقيم مجتمع جديد، مجتمع طائع لله، مجتمع بعيد عن المعصية، وقد حقق الله -عز وجل- له ذلك بسلسلة من الإجراءات وهذا ما سنستعرضه إن شاء الله لاحقاً.
وأسألُ الله لنا ولكم أن نكون مِمَّنْ يهاجروا ويهجروا السيئات.
اللهم صل على محمد وآل محمد، اللهم كن لوليك الحجةِ بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصرا ودليلاً وعينا، حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين واخذل الكفار والمنافقين، اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وأغن فقرائنا وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا يا كريم، وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.