حديث الجمعة

«زينة المتقين – 11 – أحسن الأعمال» 23 محرم 1447 هـ

نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «زينة المتقين – 11 – أحسن الأعمال» يوم الجمعة 23 محرم 1447 هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق وأشرف الأنبياء والمرسلين محمد بن عبدالله، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي.

اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم.

لا يزال حديثنا عن (زينة المتقين) في ظلال ما جاء في دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.

ونذكِّر بأننا لا نتحدث عن أمر كمالي، بل هو ضروري في أقصى الضرورات التي لا يستغني عنها الإنسان في حاضره، وفي مستقبله، في دنياه، وفي آخرته.

بلغ بنا الحديث إلى قوله عليه السلام وانتهِ بنيتي إلى أفضلِ النياتِ، وبعملي إلى أحسن الأعمالِ.

تحدثنا عن النية، ونتناول الآن (أحسن الأعمال)، ونقدم بين يدي ذلك ثلاث ركائز:

الركيزة الأولى: مبدأ العمل

وأن الإسلام ودين الله عز وجل بشكل عام لا يقبل من الإنسان إلا أن يكون عاملاً،  وأن ينظم هذا العمل وفق ما يريده الله عز وجل، هذه هي الركيزة الثانية. والركيزة الثالثة، هي أن الإنسان إذا أراد أن يعمل عملاً صالحاً، عليه أن يضع في حسبانه أن ذلك لن يخلو من مخاطر تحيط به، وتحدق به، وينتبه إليها حيناً، ويغفل عنها في أحيان كثيرة.

أما مبدء العمل فنجده في مثل قول الله عز وجل {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105]. أمرٌ من الله عز وجل للناس بأن يعملوا، ويحذرهم، وينذرهم، بأن عملكم هذا سيكون بمرأى ومسمع ومنظر من الله عز وجل، ثم سيحاسبكم على هذا العمل، والله عز وجل لأنه طيب لا يقبل إلا الطيب، فاعملوا الطيب حتى تذهبوا عليه، وحذارِ من أن تعملوا العمل غير الصالح. لأنكم ستدفعون الثمن في العاجل والآجل.

وأما الركيزة الثانية، وهي العمل الصالح

فيقول الله عز وجل في بيان فلسفة وغاية خلقة الإنسان، يقول عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

والعبادة هنا بالمعنى العام، يعني ألا ينحرف الناسُ عن الطريق الذي رسمه اللهُ عز وجل لهم، ولا يمكن أن يتحقق ذلك بأن يكونوا عباداً لله، ألا يعتقدوا بأن رباً غير الله موجود، بأن هناك إلهاً غير الله، بأن أحدا له له حق الطاعة في مقابل ما لله عز وجل. إلى غيرِ ذلك مما يترتب على القول بربوبية الله، وعبودية الإنسان لربه.

وأما الركيزة الثالثة، وهي أن العمل الصالح في خطر

فإن الله عز وجل يقول ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾ [فاطر: 36].

فالكافر كفور! يعني مبدأ أو ما يوقع الإنسان في الكفر، هو كفره لنعمة الله عز وجل، كفره وجحوده بإنعام الله عليه، ينتهي به إلى أن يكون كافراً. فافتقاده للموقف الأخلاقي الصحيح هو الذي يؤدي به إلى الانحراف العقائدي.

ولذلك، تجدون في علم العقائد وعلم الكلام تساؤلاً: ما الذي يلزمنا بأن ننظر ونفكر في مسألة الاعتقادات؟!

يذكرون مبدأين أساسيين:

الأول: شكر المنعم.

الثاني: دفع الضرر.

أما الأول، فهو الاعتراف بوجود نعمة، وبأن هناك منعم، وهذا ما يستدعي الشكر، والشكر فضيلة أخلاقية وقيمة أخلاقية.

دفع الضرر، أيضاً الإنسان يحب نفسه، يحب ذاته، ولا يتمنى لها أن تقع في شيء من الضرر أو يلحق بها شيء من الضرر، وهذان مبدآن أخلاقيان.

فإذن، الأخلاق ليست كمالاً، الأخلاق ضرورة من الضرورات.

نكمل النص بقوله تعالى ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾ [فاطر: 36-37].

والاصطراخ: افتعال من الصراخ، أي في أعلى مراتب الصراخ يأتيهم الجواب من الله عز وجل:

﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ [فاطر: 37].

فإذن الظلم الذي أوقع هؤلاء الذين كفروا فيه أنفسهم، والظلم الذي أوقعوه في حق الله عز وجل، حيث لم يقروا له بالعبودية كما يجب، والآخرين الذين ألحقوا بهم الضرر، كل هذه العوامل هي التي جعلت حرمتهم من العمل الصالح! وحتى لو عملوا عملًا صالحًا لو تصورنا وقوعه بشروطه فإنهم ينسفونه بأعمالهم غير الصالحة!

***

بعد هذه الركائز:

ما هو العمل الذي يقول الإمام عليه السلام، وانتهى إلى أن يقول: وبعملي إلى أحسن الأعمال؟()

هل الإنسان يعمل أو لا يعمل؟

كيف يعرّف العلماء العمل؟

العلماء يقولون: العمل هو الشيء، التصرف الصادر من الحيوان. ويقول السيد علي المدني الشيرازي في شرحه للصحيفة السجادية: (كل ما صدر من الحيوان بقصده، قلبياً أو غالبياً)()، يعني كل فعل تقدم عليه مريداً إياه قاصداً إياه، وأنت من منظومة الحيوانات نسميه عمل.

لذلك نأتي إلى الحيوانات البهائم، هل هي تعمل أو لا تعمل؟

في الغالب، لأنها تعمل بالغريزة، لا يقال إن لها قصداً، فالتعريف لا يشملها. الذي عنده القصد هو الإنسان، هذا الإنسان هو الذي يتحرك بقصد وبوعي. لذلك، لماذا يقول النبي صلى الله عليه وآله في الحديث المعروف: إنما الأعمال بالنيات؟()

فلو أن الإنسان عمل عملاً بغير نية، كما يفعله النائم والساهي والذاهل، ليس له أن يُطالب بالثواب، لأن هذا العمل ليس محسوبًا عليه.

الذي يُحسب له أو عليه [هو] الفعل الذي قصده، التصرف الذي قصده، سواء كان فعلاً إيجابيًا كالفعل، أو سلبيًا كالترك، أو حتى السكوت، أليس يقولون في الحديث أو في الأثر الساكت عن الحق شيطان أخرس؟

فقد صمت ولم يتكلم، نعم، مثلما أن الكلام قد يكون عملاً صالحًا، الصمت في غير محله قد لا يكون عملاً صالحًا، ومضرّاً.

لاحظوا الآيات القرآنية: الله سبحانه وتعالى يؤدبنا فيها على أن لا نطمح للحَسَن، بل أن نتجاوز ذلك بمرتبة، إلى أن نطلب الأحسن. وهذا ما سأله الإمام عليه أفضل الصلاة والسلام في الدعاء، إذ يقول: انتهِ بعملي إلى أحسنِ الأعمالِ.

لأن الإنسان إذا كان طموحه نحو الأحسن، فالحسن سيكون مفروغًا منه، وأما غير الحسن فأمر مفروغ من أنه لن يرتكبه ولن يقدم عليه.

يقول الله عز وجل ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [هود: 7].

كل هذه السماوات والأرض خُلقت وجُعل محورها هذا الإنسان، الذي حمّله الله عز وجل هذه الأمانة، لأن الله عز وجل يريد أن يثيبه أعلى الثواب، وأعلى الثواب منوط بأحسن الأعمال.

وسيأتي في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام ما المقصود بـ أحسن العمل.

وفي الآية الأخرى يقول عز وجل: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف: 7].

زينة الدنيا ليست لك، هي زينة للدنيا. أما الذي يزينك أنت فهو عملك الصالح، عملك الحسن. أما زينة الدنيا فزينة للدنيا وليست لهذا الإنسان. ويقول الله تعالى ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]. فالآية تقول: ﴿لنبلوهم أيهم أحسن عملًا﴾. وفي آية ثالثة ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك: 2] . ففائدة هذا العمل الذي طُلب منك أن تؤديه، يرجع نفعه إليك، لا إلى الله! لأن الله أعز من أن ينتفع بما يعمله هذا الإنسان. كما أن الله عز وجل يغض الطرف عن كثير من السيئات التي يقع فيها الناس، لأن الله سبحانه وتعالى الغفور، ليس غافرًا فقط، بل غفور. ولو أنه لم يكن كذلك لحاسبنا على الصغيرة والكبيرة!

وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه أفضل الصلاة والسلام في شرح هذه الآية: ﴿.. لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ..﴾، قال: ليس يعني أكثركم عملًا. وتصويب المفاهيم أمرٌ مهم؛ فالله لا يريد كثرة الأعمال، ليس يعني أكثركم عملا، ولكن أصوبكم عملا بين الصائب والأصوب، الإمام عليه السلام، يقول الله عز وجل يريد منا العمل الصائب، يعني العمل الصحيح، وإذا كان في هذا الصحيح والصواب مراتب، فالمفروض أن تطلب أصوب، وأصح الأعمال، هذا هو العمل الحسن.

فالله سبحانه وتعالى لا يريد منا كمّاً كثيراً من الأعمال، وإنما يريد منا الكيف ولكن أصوبكم عملًا.

ثم يكمل الإمام: وإنما الإصابة خشية الله، والنية الصادقة أن يكون عملك لله سبحانه وتعالى أي: تطلب فيه رضاه ورضوانه والثواب منه والجزاء منه.

أما إذا عملت لغير الله سبحانه، فـما تعمله اليوم قد يكون مرضياً عند الناس، ولكن إذا لم يرضه الناس يوم الغد، ستقلب المعادلة، وستعمل خلاف ما عملته يوم أمس.

ثم يكمل الإمام عليه السلام: العمل الخالص الذي لا تريد أن يمدحك عليه أحد إلا الله()، هذا هو العمل الأحسن والحسن؛ لأن ثواب الله عز وجل لا ينقطع.

وأما مدح الناس، وحمد الناس، وشكر الناس، فهو مطلوب، لكن شرط أن يكون في ظل رضا الله عز وجل ورضوانه، لا أن يكون في عرضه ويقابله، بحيث لو خُيّر الإنسان بين أن يُرضي اللهَ، أو يُرضي الناسَ، يقدم رضا الناس على رضا الله سبحانه وتعالى!

هذا هو المطلوب إذن.

المطلوب أن نحسن في العمل، بل أن نجعل كل عمل يصدر منا أن نطمح للأحسن، هذا الطموح هو الذي يربي فينا هذه الملكة، ملكة أحسن الأعمال.

***

نذكر عدداً من النماذج، كما جاءت في الآيات الكريمة وفي الروايات. مثلاً، من الأعمال الحسنة، بل الأحسن وعنوان الأحسن، عنوان عريض. ليس هناك مفاضلة بين هذا العمل وهذا العمل، هذا العمل أحسن، وهذا العمل أحسن، وهذا العمل أحسن، هذه مصاديق لهذا العنوان الكبير في مقابل ما يضاد هذه الأعمال.

النموذج الأول: أن يكون دينك دينا أحسن

لاحظوا ماذا يقول الله عز وجل ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ..﴾ [النساء: 125] .

فهذا هو أفضل الناس، وأحسن الناس ديناً، من اختار الدين الذي اختاره إبراهيم، وسار على أساسه موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين. هؤلاء الأنبياء هم الذين يجب أن يكونوا قدوتنا في الدين الذين تدينوا به، أن لا ننحرف عنه يميناً ولا شمالاً.

النموذج الثاني: المآل الحسن

لماذا نحن يجب أن نختار الدين الحسن؟

لأنه يؤدي بنا إلى المآل الحسن والعاقبة الأحسن والأفضل، يقول الله عز وجل: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59].

  ألا تريد عاقبة حسنة؟ ألا تريد ثمرة حسنة ونتيجة حسنة؟

فعليك أن تطيع الله، وتطيع الرسول، وتطيع أولي الأمر الذين أوجب الله عز وجل عليك، أيها الإنسان أن تطيعهم، وقد شخصهم، وحددهم.

العنوان الثالث في علاقات الناس بعضهم ببعض لا بد أن يكون بينهم نوع من التواصل، ومبدأ ومفتاح التواصل هو التحية.

كيف يحيي بعضنا بعضاً؟

الإسلام يحدد لنا حتى هذا المقدار الذي قد يتصوره الناس أمراً سهلا، أمراً بسيطا، وهو ليس كذلك،. يقول عز وجل: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا ..﴾ [النساء: 86]، يثقفنا ويربينا، ويعلمنا على أن يكون فعلنا حسن، بل رد، فعلنا أن يكون أحسن من الفعل الذي وجه إلينا.

في آية أخرى، يقول: ﴿.. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34].

هذا في التحية، لكن أيضاً حتى في حالات العدوان، فإن استطعت أن ترد العدوان بما هو خير منه، فهذا أمر حسن، إلا إذا بلغ الأمر حداً لا علاج له، فـآخر الدواء الكي.

العنوان الرابع: القول الحسن

وهذا أيضاً عنوان عريض في الأحاديث العادية، في الاعتقادات، في أي شيء. يقول الله عز وجل عن الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها، وأنابوا إلى الله لهم البشرى وهي الجنة وما يؤدي إليها: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ..﴾ [الزمر: 17-18] .

لو كان هناك أقوال متعددة، مقالات متعددة، أديان متعددة، مذاهب متعددة، خيارات متعددة، هؤلاء الذين بشّرهم الله عز وجل ويبشرهم يطلبون الأفضل.  لذلك، لا يقبلون أي قول إلا بعد الفحص والاطمئنان التام، بأن هذا القول والمقالة والدين والمذهب والتصرف، ينطبق عليه هذا العنوان ﴿فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 18].

هؤلاء هم العقلاء، العقلاء بالشكل الصحيح والنحو الصحيح. ليس من يغره إعلان هنا، وإعلان هنا، وشعار هنا، وشعار هنا. يفحص كل ما يعرض عليه، لا تغره الصورة الظاهرية، ولا الكلام المنمق، وإنما يتجاوز السطور إلى ما وراء السطور، والصورة إلى ما الصورة. فإذا كان الذي يعرض عليك الإعلان والصورة شخصاً تعرفه بالسوء، تعرفه بالقبح، يؤدبنا الله عز وجل: ﴿.. إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6].

تعرف أن هذا الكاتب غير مأمون! أن هذه القناة غير مأمونة! أن هذا المتحدث غير مأمون! ليس لك أن تنصت لمثل هذا الإنسان، وتقرأ له كما لو كان جهة مأمونة، وإلا فلن تكون ممن هداهم الله، ولا من أولي الألباب.

العنوان الخامس: ذكر الموت

أن لا يفر الإنسان من حقيقة أنه ليس مخلداً في عالم الدنيا، وأن وراء هذا العالم عالماً آخر، تحاسب فيه، فإما أن تكون ممن يثابون، أو نعوذ بالله ممن يعاقبون، فذكر الموت والاستعداد له أمر مهم.

الشيخ الكليني رحمه الله يروي بسنده، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل أي المؤمنين أكيس؟ من الكياسة، الفطنة، فقال: أكثرهم ذكرا للموت، وأشدهم استعدادا له().

وهذا هو المنطق الطبيعي الفطري هو أن الإنسان ألا يشتغل بالفاني عن الباقي. تأخذ في السير من مدينة إلى مدينة، من الحماقة، أن يشتغل الإنسان بالطريق فيلهو عن مقصده، لأنه يقصد المدينة، لا ينبغي أن يشغله الوقوف في هذه المحطة وتلك المحطة، وهذا الموقف، وهذا المنزل. هذه محطة عابرة المدة محدودة لك، وإلا سيكون على حساب وصولك للمدينة. فالنبي صلى الله عليه وآله يبين لنا من هو أكيس الناس، فيقول أكثرهم ذكرا للموت. لا يكفي الذكر، وأشدهم استعدادا له العمل.

العنوان السادس: العمل بالسنة

عنوان عريض ينطبق على منهاج الله عز وجل الذي جاء في القرآن الكريم، ونطق به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن بعده الأئمة المعصومون.

الإمام الصادق (عليه أفضل الصلاة والسلام) يقول: وأما الجهاد الذي هو سنة، أي: عادة حسنة، فكل سنة أقامها الرجل.

عنوان الجهاد، عنوان عريض، وقد كان الإمام عليه أفضل الصلاة والسلام هو ومن سبقه من الأئمة يلامون على عدم اشتراكهم ودفعهم من يتبعونهم ويشايعونهم إلى الاشتراك في القتال الذي كانت تمارسه الدول التي عاصروها. الأئمة عليهم أفضل الصلاة والسلام، كان عندهم تحفظ كبير، ليس كل قتال في سبيل الله. القتال إذا كان بقصد الفتوحات، ونيل الغنائم، ليس هذا هو الغلبة السياسية. والغلبة على الآخرين، ليس هذا قتالاً في سبيل الله، والله عز وجل أكثر في القرآن الكريم من الحديث عن ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ..﴾ [البقرة: 190]، حتى الذين يقاتلونكم قال: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ..﴾ [البقرة: 190]، لم يقل قاتلوا الذين يقاتلونكم فقط. اجعلوا حتى من الدفاع عن أنفسكم، لو اضطررتم إليه أن تجعلوه لوجه الله.

فيقول عليه السلام: وأما الجهاد الذي هو سنة، فكل سنة أقامها الرجل، وجاهد في إقامتها وبلوغها وإحيائها، فالعمل والسعي فيها من أفضل الأعمال، لأنه إحياء سنة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من سن سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص، أو ينتقص من أجورهم شيء().

العنوان السابع: زيارة قبر الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام

حتى نعرف لِـمَ أصر واجتهد أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام على ذكر الإمام الحسين، الثواب فيها عظيم لا يعرفه الذين لا يعرفون الغيب الذي لا نعرفه، نحن بقدراتنا، وإنما يبينها الله عز وجل، ومن أطلعهم عليه.

الشيخ ابن قولويه يروي بسنده عن أبي خديجة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام ما يبلغ من زيارة قبر الحسين عليه السلام؟ قال أفضل ما يكون من الأعمال(). بلغنا الله وإياكم زيارة سيد الشهداء فإذن هذا عمل.

ذكرنا القاعدة هي أن يطلب الإنسان أحسن العمل، لكن لأن الأعمال فيها ظاهر وفيها باطن، ولأننا نعلم بعض الظاهر وليس كله، ولا نعلم شيئا من الباطن، لأن لكل شيء ملكوت. يقول الله عز وجل: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ..﴾ [يس: 83] . كل شيء له ملكوت، نحن لا نستطيع أن نقول ونشير بأصابعنا إلى أن فلاناً من الناس من أهل الصلاح المطلق، وأنه من أهل الجنة، لأننا لا نعرف باطنه، ولا نعرف نيته. ننتظر ذلك ممن أطلعه الله عز وجل على الغيب.

فيأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقول: سيدخل عليكم رجل من أهل الجنة، ويدخل فلان، لأن رسول الله يعلم أن الذي سيدخل هو فلان الذي شهد له بالجنة، وهكذا، مثل هذه الأخبار لا يطلع عليها الإنسان إلا في ثقافة الوحي.

العنوان الثامن والأخير والعناوين كثيرة -: الصلاة على رسول الله وآله صلى الله عليهم أجمعين

وهذا العمل إنما كان أفضل الأعمال، لأنه يكشف عن حسن اعتقاد الإنسان ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ..﴾ [الزمر: 17-18]  هذا من أحسن الأعمال.

نحن نعبر بمثل هذه الصلاة جعلنا الله وإياكم من المصلين على رسول الله وآله عن حسن اعتقادنا، كما أراده الله عز وجل. فقد روى الشيخ الصدوق بسنده عن حماد بن عثمان أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن أفضل الأعمال يوم الجمعة، وإن كان في هذا اليوم الجمعة، وهذا يوم الجمعة، لكن نحن نسعى وراء معرفة عنوان أحسن الأعمال. قال: الصلاة على محمد وآل محمد مئة  مرة بعد العصر، وما زادت فهو أفضل منها().

هذا من أين ناشئ؟

ناشئ من العنوان الكلي الذي بيّنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يختلف فيه مسلمان. التأكيد على أن مصدر معرفتنا وحسن اعتقادنا هو الكتاب والسنة، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: إني تارك فيكم الخليفتين من بعدي: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض().

وبالتالي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطانا أوثق ما يمكن أن يُستوثق به الإنسان، ليكون من ذوي الأعمال الحسنة، بل الأحسن.

نسأل الله عز وجل أن نتمسك وإياكم بوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن نكون وإياكم ممن يستمعون القول، فيتبعون أحسنه.

اللهم صل على محمد وآل محمد.

اللهم كن لوليّك الحجة بن الحسن، صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعة، وفي كل ساعة، وليًّا وحافظًا، وقائدًا وناصرًا، ودليلًا وعينًا، حتى تُسكِنه أرضك طوعًا، وتمتّعه فيها طويلًا.

اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واخذل الكفار والمنافقين، اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وأغنِ فقرائنا، وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا، ولا تُخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنّا يا كريم.

وصلّى الله على سيدنا ونبيّنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *