مقالات

الأطروحة القرآنية… إبراهيم (ع) نموذجاً

السيد حسن النمر

استعرضنا في حلقات أربع سابقة طبيعة العلاقة التي يجب أن تكون بين الإنسان والقرآن، فاستعرضنا، أولاً، العلاقة على مستوى التلاوة، وثانياً على مستوى (التدبر) لننتقل إلى مرحلة التفاعل الذهني بين المضمون القرآني والقناعة الإنسانية، ثم استعرضنا، ثالثاً، الدور المناط بالقرآن العمل على إنجازه، وقلنا إنه (صنع الإنسان)، وذاك يتطلب التعرف على الانتقال إلى تبين كيف يجب أن يتفاعل الإنسان مع المضمون القرآني، وهو ما استعرضناه في حلقة (التفاعلية)، لينتهي بنا المطاف إلى الحديث عن نموذج حي للأطروحة القرآنية، التي هي الأطروحة الربانية عبر التاريخ، ضمن صورة بشرية حيةًّ سيقت لتكون النموذج والمثال الذي ينبغي للناس أن يتأسوا به فيما يدعوهم القرآن لتبنيه منهجاً في الحياة، وسنستعرضه بإيجاز شديد يناسب المساحة المتاحة لنا. فنقول:

1 – من المسلّم به تربويّاً أن لـ(الأسوة) و(القدوة) دوراً حيويّاً في التعريف بالمنهج أولاً، والإذعان به ثانياً، وتجسيده ثالثاً، والدعوة له رابعاً. وبغير (الأسوة) قد تتحول الفكرة إلى مجرد تنظير وترف فكري.

ولعل هذا هو الذي حدا بالخطاب القرآني أن يكثف حضور الأسوة، عبر شخوص الأنبياء (ع)، باعتبارهم (التجسيد الإنساني) لـ(الأطروحة الربانية) لـ(صنع الإنسان). مع حفظ الفوارق بين الأنبياء (ع) والناس، بل بين الأنبياء أنفسهم «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» (البقرة: 253).

2 – ومن تلك النماذج نبي الله إبراهيم (ع)، قال تعالى: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» (الممتحنة: 4).

ومن أبرز ما نلحظه في التعبير القرآني، في هذه الآية، هو:

أولا: التركيز على الأسوة من جهة، وأنها حسنة من جهة ثانية، وضم «الذين معه» في ذلك. في إشارة واضحة أن عنوان (الأسوة) إنما طرح للتطبيق «لكم». فإبراهيم (ع) مع أنه نبي اصطفاه الله بكمال لا يرجو أمثالنا نيله، إلا أن المطروح هنا هو الكمال الميسور لنا «أسوة حسنة».

ثانياً: تحديد طبيعة (الأسوة) وهو موقفهم المبدئي من الثبات على مسألة التوحيد وصلابتهم فيه، وموقفهم الصارم من إعلان ذلك وتبنيه عمليّاً «إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون».

3 – مركزية مسألة (التوحيد) في الفكر الديني. فإننا إذا جلنا في القرآن الكريم، والآية مورد الحديث نموذج لذلك، سنجده طافحاً ومشحوناً بالحديث عن التوحيد من مختلف جوانبه. والقرآن حينما عالج هذه القضية يؤكد على أن لها أبعاداً عملية تتجاوز البعد النظري البحت. فليس سواء أن يكون الإنسان (موحداً) أو (غير موحد).

4 – ولعل استعراضاً سريعاً للنهج الإبراهيمي في القرآن، يجلي لنا ما يمكن أن يكون سبباً للغموض.

أ – فثمة حديث من الله عز اسمه تدفع بإبراهيم (ع) إلى تبني منهج فكري محدد في اتجاه التمحور حول (الله) في الفعل والقول، وفي الإقدام والإحجام. فقال: «قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» (الأنعام: 162). فالعبادة، «صلاتي ونسكي»، يجب أن تكون مبينةً على أساس التوحيد، بل يجب أن تكون مفردات وتفاصيل الحياة اليومية «محياي ومماتي» قائمة على ذاك الأساس.

وقد يكون من اليسير التعرف على معالم (التوحيد) في العبادات، ولكن كيف تكون (المعاملات) متضمنة لـ (التوحيد)؟

وإجابةً على ذلك نقول:

إن الرؤية القرآنية، والدينية السماوية، تقوم على أساس الربط الوجودي بين مفردات الكون والوجود على أساس العلاقة بين:

1 – الخالق والمخلوق «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ» (الطور:35).

2 – المالك والمملوك «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (آل عمران:26).

3 – الغني والفقير «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» (فاطر:15).

4 – الضرر والنفع «وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ» (النحل:53).

هذه العلاقات، وأمثالها، تفرض على (الموحِّد) أن يكون إبراهيمي المنهج، يتبنى (التوحيد) منهجاً فكريّاً، والعطاء منهجاً نفسيّاً، و(تحطيم الأصنام) منهجاً عمليّاً يعيد من خلاله إنتاج الواقع على قواعد علمية وموضوعية.

وحينما يقص القرآن علينا عملية تحطيم الأصنام، فليس الهدف من ذلك يقف عند حدود السرد التاريخي، ولا يقف عند حدود الأصنام الحجرية. وإنما هو يهدف إلى زرع (قيمة التوحيد) حيّةً في (نفس الموحِّد). فلا فرق في (الأصنام) بين أن يبنيها (نمرود) ليستغل عنوان (الدين) في نفوس البسطاء، أو يكون الصنم إنساناً يسمى (فرعون)، أو يتمثل في (أحبار ورهبان) يتقمصون دور الله في (التحليل والتحريم) «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» (التوبة:31).

ب – وثمة حقيقة أخرى يثيرها القرآن، تتجلى في التعريف بـ (الدين). فهو في القرآن واحد من نوح (ع) إلى محمد (ص) «قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (آل عمران:84). فهم، جميعاً، «مسلمون» باعتبار «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ» (آل عمران:19).

وبطبيعة الحال، فإن ذلك ليس بالضرورة يعني أن للإنسان أن يتدين بأي دين سماوي، لأن مقتضى التدين أن تكون الحاكمية المطلقة لله تعالى، فإذا بعث الله نبيّاً وجب التسليم له، وإذا بعث نبيّاً بعده ناسخاً لدعوة سابقه وجب التسليم للمتأخر. ومن ثم فإن الدين، في يومنا هذا وإلى يوم يبعثون هو الذي جاء به رسول الله محمد (ص) والذي نعرفه جميعاً باسم (الإسلام).

جـ – إن مما يجب التنبه له هو أن الآية، مورد البحث، تشير إلى أن جانب الأسوة المطروح فيها هو ثباتهم المبدئي على (التوحيد) وما يتفرع عنه من العبودية، بمعنى الخضوع، وأنه لله وحده لا شريك له. فالقرابة العائلية، والانتماء الجغرافي … لا يجوز أن يكون معبوداً من دون الله.

5 – ونقرأ في القرآن نموذجاً إبراهيميّاً آخر هو: الطموح للسمو. والاستعداد التام للنجاح في الامتحان «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» (البقرة:124).

فقد تعرض إبراهيم (ع) لشدة محبة الله إياه، إلى امتحان وابتلاء، كان الغرض منه الانتقال بإبراهيم (ع) بعد مقام النبوة والخُلة، إلى مقام الإمامة. بكل ما يعنيه هذا المقام من: اصطفاء من الله، وتميز على مستوى الذات، ومقبولية لدى الأوساط الإنسانية السوية.

ومما لا يحتاج إلى الشرح أن الإمامة هنا مقام يختلف عن مقام النبوة، وأنه يفوقها، وأن من لوازمه أن يكون (إبراهيم أسوة). يهتدي الناس بهديها. ويصلون إلى الله من خلالها.

6 – ونلمس في هذا النموذج روح الشعور بالمسئولية تجاه الأجيال المستقبلية، فلا أنانية ولا ذاتية، بل إحساس مرهف بالمحبة للخير لكل الناس، «قال ومن ذريتي» فأجيب من الله أن دعاءك مستجاب في غير الظالمين من ذريتك. فـ(الإمامة) لطف وخير والله كريم، بل ضرورة ملحة والله رؤوف رحيم.

وما أحوجنا إلى إحياء النموذج الإبراهيمي في واقعنا المعاصر الذي ملئ أصناماً تعبد من دون الله، أخذت أسماء شتى، تلتقي كلها في شد الإنسان إلى الأرض، من خلال التلاعب بمنظومة القيم في ذهنه وقلب الموازين في عواطفه ومشاعره، «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ، تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» (الكهف:28). فلا يكاد يفرغ من حل مشكلة، إلا ويقع في أخرى، «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» (الأنعام:125). ويتخبط في العلاج كما يتخبط في التشخيص «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» (الزخرف:36).

صحيفة الوسط البحرينية – العدد 1512 – الخميس 26 أكتوبر 2006م الموافق 03 شوال 1427هـ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *