مقالات

التدبر في القرآن مشروع أم ممنوع؟

السيد حسن النمر

إذا انطلقنا من حقيقة أن القرآن الكريم كتاب هداية «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً» (الإسراء:)، وأن المطلوب هو التفاعل معه، تلاوةً «إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ» (فاطر:)، وتدبراً «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» (محمد:). فإن المنطق العقلي والقرآني يفرض ألا يكون في البين ما يحول بين الإنسان وبين محاولة (الفهم) لآيات القرآن، مع بعض الشروط التي سنأتي على ذكرها.

انطلاقاً من ذلك تتأسس معالم منهج التدبر في القرآن وتفسيره. فإننا نعلم أن ثمة تباينات تصل إلى حد التناقض بين أهل التفسير والباحثين في القرآن، تنبع في أساسها، من منهج كل منهم في نوعية المنطلقات الفكرية ومن تحديد طبيعة الدور الذي أنيط بالقرآن الكريم . ونواجه في هذا الصدد عدة فرقاء وعدة مناهج:

– فريق يصر على حرمة التفسير انطلاقاً من قاعدة أن (القرآن) خطاب للناس من خلال المعصوم «النبي (ص) والإمام (ع)»، الذي يتولى بدوره عملية تفسير النص، وان كل محاولة بعد ذلك تحقق موضوعة (تفسير للقرآن بالرأي) ويستحق معها عقوبة من فسر القرآن برأيه المتفق على حرمته بين المسلمين.

– فريق يرى أن أي تفسير لا يلتقي مع ما ورثناه من السلف (الصحابة والتابعين) لا يمكن قبوله، لأنهم الجيل الأقرب زمناً لنزول النص، ليصبح (القرب الزماني) هو المحدِّد لـ (أهلية التفسير). من دون أن يكون لنا، نحن المتأخرين زماناً عن فترة نزول الوحي، الحقُّ في التفسير، إلا في حدود الرواية ونقل الأثر. وعلى أساس هذين المنهجين قام (التفسير بالمأثور) على تفاوت كبير بين خلفيات ومبررات كل من الفريقين بما لا مجال لمناقشته الآن.

– في مقابل هذين الفريقين نرى فريقاً يرى فتح باب التفسير لكل من هب ودب، فلا تكاد تلمس أي شرط إلا أن تكون عربياً! وهو نهج متطرف في (انفتاحه) بما لا يطمئن الباحث إليه بسلامة النوايا!

– وبين هؤلاء وأولئك مناهج ومدارس تتفاوت بين العمق والسطحية، وبين التحيز للانتماء المذهبي والموضوعية العلمية، ولكلٍّ محاسنُ، مع عدم خلو أكثرها من مؤاخذات وملاحظات.

ويعتقد الكاتب أن للقرآن الكريم دوراً يُلزم الناسَ أجمعين بـ (التدبر):

– التزاماً بأن ما جاز للسابق من الناس جائز لللاحق منهم، فأحكام الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد، وحلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

– أن القرآن تجسيد لنبوة النبي محمد (ص) الذي امتن به الله عز وجل على الناس أجمعين، إذ قال: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» (الأنبياء: ).

– أن الخطاب القرآني نفسه يوجب على الجميع، في عصر الوحي وبعده، أن يتدبروا القرآن، عبر ذمه من لا يفعل ذلك إذ يقول: «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» (محمد:).

لا نعتقد أن (القرآن الكريم) مجموعة ألغاز وأحجياتٍ لا ينبغي للناس أن يتشاغلوا بحلها أو الدنو منها، لأنها، ببساطة شديدة، عصية على الحل. بل نعتقد أن القرآن (نور) يستضاء به لطرد الظلمات مهما اشتد حلكها. وهذا لا ينسجم مع التوجس من الاقتراب للتعرف على معالمه ومفاهيمه.

إن مثل هذه النظرية تحرِم الإنسان الباحث عن الحقيقة ضالته (والحكمة ضالة المؤمن)، كما أن فيها (بخلاً) لا ينسجم مع الجود والكرم الإلهيين فضلاً عن أنها تخالف (الحكمة الإلهية) بإنزال القرآن على النبي (ص) وتكليفه بـ (تلاوته) على أسماعهم، وتعليمهم بالقول والفعل أسلوب ومنهج التعامل مع القرآن الكريم. علاوة على أنها ستدفع بالإسلام إلى التوقع في الوسط الإسلامي بالوراثة، لأننا لا نستطيع، في ضوء هذه النظرية (المحرِّمة)، أن نعرض القرآن الكريم على غير المسلم لـ (يتدبره) كما كان يفعل الرسول (ص) إبان ممارسته (الدعوة)، وإلا سيكون لغير المسلم حق التدبر، بينما يحرم على المسلم ممارسته، ثم إذا أسلم حرم عليه التدبر!

لذلك نصر على أن (التدبر) بمعنى التأمل في مضامين القرآن أمر ميسور، ومشروع، بل مطلوب.

أجل، ثمة قواعد ومبادئ لا مجال لتخطيها في هذا الباب، وهي أن (الحكمة) التي تعني: وضع الأمور في نصابها، و(الموضوعية) التي تعني: ممارسة أقصى درجات الانضباط والحيادية. تفرضان على (المتدبر) مراعاة سلسلة من الشروط، لئلا يقع في تجاوز للحدود في ممارسته لفعل (التدبر) الذي هو، هنا، تفكيك وتحليل لـ (نص). ولذلك قواعد ترتبط بـ (النص)، وبـ (صاحب النص)، وبـ (الغرض) الذي جيء بالنص من أجله، وبـ (قارء النص).

وبغير ذلك سيكون (التدبر) فضلاً عن التفسير ليا لعنق النص، وتكييفاً له من أجل تطويعه لأغراضنا، الأمر الذي يقع معه فاعله في (جريمة لا تغتفر) في حق النص/ القرآن ، وصاحبه / الله ، والمخاطب به / الإنسان . وقد عانت مسيرة التفسير من ذلك أشد المعاناة، إذ (تمذهب) التفسير تبعاً للانتماء المذهبي للمفسر، فأصبح لدينا (تفسير صوفي) وآخر (أشعري) وثالث (سلفي) ورابع (شيعي) … في ممارسة مقلوبة للهيمنة التي أثبت الله سبحانه أنها للقرآن على سائر الكتب السماوية «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (المائدة: )، ليصبح (المذهب) و(الانتماء الفكري) مهيمِناً على القرآن.

ولعل مراجعةً سريعة لمختلف الكتابات عند أكثر من فريق تكفي لتوثيق ما نقول. وهي أزمة قديمة جديدة، فـ (القرآن حمال ذو وجوه).

إيجاز لشروط التدبر:

– المعرفة باللغة العربية، نحواً وصرفاً وبلاغةً… (البعد النظري).

– أن يكون المتدبر ذا خبرة معتد بها في التحليل للنصوص (البعد التطبيقي).

– الإحاطة النسبية بالمعارف الإسلامية وتاريخ هذه المعارف (البعد الموضوعي الترابطي).

– الاتزان النفسي والابتعاد عن المؤثرات الجانبية من قبيل: (الانتماء الفكري والقومي والأسري والجنسي…).

– التمرس على التعامل مع النص القرآني نفسه لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً (البعد).

صحيفة الوسط البحرينية – العدد 1491 – الخميس 05 أكتوبر 2006م الموافق 12 رمضان 1427هـ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *