بين يدي أزمة بحجم (الطائفية والمذهبية)، أخذ غبارها بتلويث أجوائنا. ينبغي أن نتجنب مخاطر ثلاثة:
الأول: القفز عليها، وذلك من خلال تجاهلها كما لو لم تكن موجودة بالمطلق.
الثاني: التضخيم والتهويل لها، كما لو أن حربا طاحنة نشبت ولابد من شحذ السيوف والنصال لخوض غمارها.
الثالث: الانغماس فيها، كما لو أن مشاكل الأمة انحصرت فيها.
إن كل ذلك، في ما أحسب، يشي بضعف أو سذاجة أو تسرع، لا ينبغي لحماة الأديان والأوطان أن يتسموا بها.
وأعتقد أيضا أنه من الضروري أن نحدد ملامح (الطائفية)، قبل البحث عن حل أو حلول لها، لأن الحكم فرع التصور. ومن الضروري أيضا، أن نتعرف على الأسباب ونستشرف النتائج، ليتأتى لنا البحث عن الحلول الصحيحة، للترابط المنطقي بين تشخيص الداء ووصف الدواء.
إن دعاوى (الطائفية) تتنافى تماما والانتماء الصادق للأديان والأوطان. لأن الدين الإسلامي خصوصا لا يسمح بنشوء الحس الطائفي، والوطن، أي وطن، لا يمكن بناؤه في أجواء طائفية محمومة.
منهجياّ لا يجوز الخلط بين الانتماء لـ(الطائفة والمذهب)، الذي يعني: أن يتفق شخص مع مجموعة من الناس في مبادئ وقيم معرفية ينظم سلوكه على أساسها. والانتماء بهذا المعنى مسألة عادية، لا يكاد فرد من الناس يخلو من شكل من أشكال الانتماء لطائفة أو مذهب، مهما اختلفت الأسماء.
وبين الانحياز للطائفة، الذي يعني: التوغل في الانتماء إلى حد التعصب بمستوى ظلم الآخرين أو الاستعداد لظلمهم. يدفعه إلى ذلك إيمانه المطلق بضرورة الانتصار لطائفته ظالمة أو مظلومة. فالطائفية إذا تعني: ممارسة ظلم الآخر، أو الاستعداد لذلك، بتوفير أسبابه النفسية والفكرية والعملية. لذلك هي مقيتةٌ ورذيلةٌ أخلاقية، كما أنها خطيرةٌ اجتماعياّ وسياسياّ. يجب التنادي إلى تطويقها ومعالجتها.
ويجب التنبيه إلى أن الطائفية قد يبتلى بها كل فرد وكل طائفة. وعليه، فإن اللازم أن لا يُسمح لطرف أن يحاسب طرفا آخر على (طائفيته)، انطلاقا من موقع القوة الاجتماعية والسياسية التي يحظى بها، دون أن يُسمح للمتهم بها أن يدافع عن نفسه، أو يُتوقع منه ذلك، ولو في حدود وصم الآخر بها.
في مثل هذه العجالة ليس من الميسور الاستقصاء في سرد أسباب الطائفية. لذلك نقف عند أهمها؟
السبب الأول: القصور الفكري بطبيعة المعارف الدينية والإسلامية: إن من لوازم الطائفية الانحياز الأعمى والمطلق للمماثل في الانتماء المذهبي، وذاك ينم عن جهل فاضح بالإسلام الذي تؤكد قيمه كلها على القسط والعدالة للقريب والغريب قال تعالى :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8).
فالسني والشيعي إذا اعتقد أيٌّ منهما جواز الافتئات على الآخر والكذب عليه وظلمه، على أساس خلفيته المذهبية، فهو يمارس معصية لله تعالى الذي أمره، بنص الآية، بأن يكون من أهل التقوى التي تتوقف بدورها على العدالة والقسط حتى مع الأعداء. والقيمة الأخلاقية الإسلامية، بنص الآية الشريفة أيضا، ترفض الظلم مطلقا.
السبب الثاني: القصور الفكري بواقع (الآخر): إن الإنسان بطبعه تحركه قناعاتُهُ، وهذه بدورها ستدفع به في اتجاه التصرف الصحيح، إذا كانت صحيحة، وفي اتجاه التصرف الخاطئ، إذا كانت خاطئة. ولعل هذا السبب نتيجة منطقية للانغلاق الفكري الذي يقع فيه بعض الجماعات لسبب أو لآخر، ويشكل بالتالي حائلا دون التعرف على الآخر، الأمر الذي يشكل صورة نمطية سلبية وخاطئة عنه، مما ينتج عنه لبس في تشكيل الوعي عنه والاقتراب منه، انتهاء بسلبه حقه في هذا المجال وذاك.
السبب الثالث: القصور الفكري بالذات حيث ينطلق الطائفي من كونه مصيبا دائما، معتقدا من حيث لا يشعر بعصمة فكره، وأنه يملك الحقيقة المطلقة. فلا يجد نفسه بحاجة أبدا إلى (الآخر)، الأمر الذي يؤدي به إلى الانغلاق الفكري، بكل ما يترتب عليه من مآسٍ على نفسه وعلى غيره.
السبب الرابع: الأوضاع النفسية القلقة من طرف لطرف: ونعني به اختلال التوازن في الحب والبغض. وهذا، بدوره، نتيجة منطقية للسبب السابق، فالإنسان، كما يقول علي (ع): (عدو ما جهل).
السبب الخامس: الأوضاع السلطوية بمختلف مظاهرها (السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية).
إن ممارسة التسلط والعلو من قبل طائفة في حق طائفة، تصنف ضمن (الطائفية) المنتجة لطائفية مضادة. لأن أي طائفة، مهما قلّ عددها إذا شعرت بأن حقوقها منقوصة، ستبحث عن وسائل لرفع ظلامتها، فإذا أمعن خصومها في ظلمها سيجد الأعداء الفرصة سانحة لثلم الوحدة الاجتماعية والوطنية للأمة. وإذا أمكن للعقلاء السيطرة حينا فقد لا يتيسر لهم ذلك حينا آخر.
السبب السادس: العزلة والانطواء (النفسي والاجتماعي): وهذا بطبيعته يجعل من الجماعة المنعزلة ترتبك في تشكيل الوعي بذاتها، فضلا عن الوعي بالآخر، ليقطع المشاعر الإيجابية تجاههم، لينتهي أخيرا ببغضهم وكراهيتهم.
السبب السابع: التقصير في التواصل بين أتباع الطوائف والمذاهب: فإننا نعلم جميعا ما للتواصل والتقارب من أثر إيجابي في زرع المحبة بين المتواصِلين، وما للتباعد والقطيعة من أثر سلبي خطير في زرع نبتة الشقاق والفرقة بين الإخوة الأقرباء فضلا عن طوائف تختلف قليلا أو كثيرا على مستوى القناعات والأفكار.
السبب الثامن: ضعف الوعي السياسي والاجتماعي: وذلك أن أحدا من حملة لواء (الطائفية) لم يكلف نفسه عناء التأمل قليلا في مخاطر تكريس الطائفية والمذهبية على لحمة الأمة، التي إن أصابها داء البغضاء والكراهية، فلن تقوم لها قائمة ولن ينجو سني ولا شيعي، وسيقع الوطن لقمة سائغة في فم الأسد المتربص بالجميع الدوائر. وقبل ذلك سيكون الدين ضحية لممارسات بشرية لم يأمر بها الدين وما أنـزل الله بها من سلطان، قال تعالى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل:90).
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 1646 – الجمعة 09 مارس 2007م الموافق 19 صفر 1428هـ